دلال الودعاني
لا يشك عاقل أو متابع أننا في زمن يطغى عليه كثرة التقلبات والتغييرات، في العديد من النواحي والمجالات، فعقديا اضطرب بل ضعف جانب الولاء والبراء، وأخلاقيا انعدمت العديد من القيم، وسلوكيا تقهقرت الكثير من المبادئ، وثقافيا تبدلت واضطربت نسبة كبيرة من المفاهيم، حتى تكرست حالة أصبحت سمة ظاهرة في العديد من المجتمعات، وتفاقمت يوما بعد يوم، وأخذت العديد من الصور والأشكال، لتكون كالنار التي تكاد تكون “الوصولية ” من أخطر وأفتك الأمراض، التي من شأنها تدمير الدول والمجتمعات والشعوب، وقبل الحديث عن تلك الحقيقة ومعناها ومظاهرها وأشكالها، لابد من التنويه والتنبيه لحقيقة هامة جدا، هي حصانة ووقاية وصمام أمان من هذه الآفة، كتوطئة لهذا الموضوع، واستحضارها بجميع شؤوننا ومراحل حياتنا.
الوصولي في علم النفس هو الشخص الفوقي الذي يضع نفسه بالمقدمة، بلا تردد أو حياء ولا خجل أو شعور، ولا يتراجع مهما كانت العواقب، ولا يكترث بأي رادع.
للوصولي العديد من المظاهر والأشكال والهيئات والتوصيفات، تختلف من بيئة لبيئة، ومن زمن لآخر، وبحسب الأحوال والمعطيات، واقتناص الفرص والمتغيرات، وقد يشترك بأكثر من مظهر ويفترق مع غيره بهيئات أخرى، يحدد ذلك طبيعة الوسائل والمصالح والمطامع المنشودة، وبحسب الطموحات وتسلق المناصب والوجاهات.
ومن أشكال الوصولية في زماننا، هو من يسعى لتحقيق أهدافه وغاياته ومصالحه، بأية صورة ووسيلة مشروعة أم لا، ويستثمر علاقته بالآخرين ونفوذه حتى لو كانت على حساب مبادئه، وعمقه المجتمعي حتى لو تعارض مع ثوابته وسلوكه، وبيئته الخصبة المتعاطفة حتى لو كانت على حساب الدين والقيم.
قد يستعمل البعض سياسة ” الأنا ” الفرعونية وعدم الاعتراف بالآخرين، وسياسة ” على علم عندي ” القارونية ونسبة الخير لنفسه وانتقاص جهود الآخرين، وهاتان السياستان المقيتتان من مظاهر الوصوليين في زمن الفتن والمصالح والتلون، أضف إلى ذلك سياسة التدليس والانتهازية للوصول إلى القمة على حساب جراحات وآلام الآخرين!! وسياسة الوصاية وإقصاء الآخر واحتقار جهوده، بنظرة فئوية ضيقة، وتقريب البعيد وإبعاد القريب بمعايير غير مهنية، ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول( إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة )
من مظاهر الوصوليين عدم نكران الذات، وعدم الاعتراف بصاحب الفضل والبذل والعطاء، إما لأسباب شخصية أو فئوية، أو لأن إظهار الحقائق يتقاطع مع الوصول لأغراض وأهداف ضيقة، حتى لو كان من تم إقصائهم لهم باع وفضل على أولئك.
يقول عليه الصلاة والسلام:( سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب و يكذب فيها الصادق و يؤتمن فيها الخائن و يخون فيها الأمين و ينطق فيها الرويبضة قيل: و ما الرويبضة ؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة )[8]، وهو التافه من الرجال القاعد عن المساعي الكريمة[9].
الوصولي ليس له مبدأ ثابت ولا طريق واضح، يتلون كما تتلون الحرباء، مع تميزه باللعب في العبارات والتناقض في التصريحات، والاضطراب في المواقف والملمات، فهو مع الريح والسائد والغالب، موقفه متذبذب لا يستقر إلا وفق هواه ونظرته القاصرة.
من مظاهر الوصولي أنه مولع بالتقاط الصور، ويعشق تسليط الأضواء، ويهوى التصفيق من غير نقاش أو تحمل أي نقد بناء، ويسمح لنفسه بموعظة الناس، والضحك على الذقون بأنه منهم وهم منه، وهم جميعا أخوة وأبناء، إلا أنه لا يقبل الموعظة من أحد والتوجيه، ويتيح لنفسه تصنيف الآخرين بما يحلو له من أوصاف، مع رفضه آراء غيره فيه!!
ليس لدى الوصولي الشجاعة الكافية لمواجهة الحقائق الدامغة والحجج البينة والبراهين الساطعة، ولا يتمكن من اتخاذ قرارات حازمة قوية حاسمة، حتى لا يفقد بعض المؤيدين من خلال مجاملتهم ومداهنتهم على حساب الحق وأهله، وبمجرد انكشاف مواقفهم الزائفة وتصدع صفوفهم، يبدأون بالتظلم واختيار لين القول، وتغيير المواقف حتى لو اضطرهم الأمر التعامل مع شياطين الجن والإنس، محاولين إرضاء جميع الأطراف بالكلام المعسول والكذب والنفاق والتلبيس!! والتقرب للآخرين وإيهامهم أنهم الأفضل.
الوصوليون يهابون من يتفوق عليهم ويخشونه ويحسبون له الحسابات، مع تربصهم به ومحاولة تشويه سمعته وتدميره، بكل الطرق والوسائل حتى التي تتنافى مع أبسط الأخلاق والقيم والمبادئ، للوصول لأهدافهم وتحقيق مآربهم.
يقضى على المرء في أيام محنته *** حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن
الوصولي ينطلق من منطلق الإحساس بالنقص وعدم الثقة بالنفس، إذ يحاول الإثبات بأنه الناجح دون سواه، وأنه الصواب دون غيره، لذلك يحاول دائما الحديث على خصومه والترصد لهم وتتبع العثرات، مع سوء الظن وتحميل مواقفهم وسلوكهم ما لا تحتمل، لأن مبادئهم مطاطية هلامية تتغير حسب الظرف والضرورة. ليس عيبا أن يتراجع الإنسان عن خطأ ارتكبه، أو انحراف تلبس به فترة من الزمن، أو الاعتراف بالذنب وتصويب مسار معوج سابق، بل هذا واجب ومطلوب إذ يقول عليه الصلاة والسلام (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون )