البوق آلة موسيقية مجوَّفة، حادّة الصوت، يُنفخ فيها أو يُزمَر. وللبوق معنى مجازي يُقال: (هو بوق لفلان)، أي داعية له أو تابع أعمى، عطّل عقله وتحول إلى أداة لترديد مدحه وتضخيمه.
من عجائب هذه الحياة أن بعض النفوس تضطرب وتقوم قائمتها إذا سمعت مديحاً يُوجَّه لمن يستحقه، وكأن سهماً أصاب أفئدتهم، إذ لا يطيقون تقبّل الثناء على من يغارون منه ويغتاظون من نجاحه.
فالمدح للمستحق ليس إساءةً لغيره، بل هو إقرار بفضله، غير أن النفوس الضعيفة لم يدرّبوا أنفسهم على تقبّل تفوّق الآخرين وتميّزهم.
حين دخل ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود البيت الأبيض، لم يكن مجرد ضيفٍ عابر، بل كان رمزًا لعصرٍ جديد، يحمل معه رؤيةً تتجاوز حدود المملكة لتلامس آفاق العالم، مراسم الاستقبال لم تكن مجرد بروتوكولًا رسميا، بل اعترافًا صريحًا بمكانة قائدٍ عربيٍ شاب، يكتب بلغة القوة والاحترام فصلًا جديدًا في التاريخ.
زيارة كتبت قصائد بالحبر الاستراتيجي و كانت ميلادًا لشراكات تحمل في طياتها مستقبلًا مشتركًا واستثمارات تتجاوز التريليون دولار، كأنها أنهار تصب في أرض الفرص وتزرع وظائف وآمالًا جديدة.
وتلا ذلك ظهور عدد كبير من العرب الشرفاء، عبر القنوات الإخبارية ومنصات التواصل الاجتماعي، وهم يرفعون أصواتهم بالثناء على قائدنا ويشيدون بإنجازاته، وحُق له ذلك. فِي الصَّحِيحَيْنِ: عَن عبدالله بن مَسْعُودٍ، عَن النَّبِي ﷺ قَالَ: (مَا أَحَدٌ أغير من الله، من أجل ذَلِك حرَّم الْفَوَاحِشَ مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن، وَمَا أحدٌ أحبّ إليه الْمَدْح من الله؛ وَلذَلِك مدح نَفسه)، أن المدح في أصله ليس فعلاً مذموماً، بل هو إقرار بالفضل وإظهار للحق، وإنما يُصبح معيباً إذا خرج عن موضعه.
لكن، بينما كنا نحتفل ونرفع رؤوسنا عاليًا، بدأت وشوشات الغيرة وخرجت أصواتٌ تنعت كل من يمتدحون ولي العهد بأنهم أبواقًا!! تتقاذفهم أمواج النفس المضطربة: شعورٌ بعدم الأمان، و غيرةٌ تتلظّى، أو خوفٌ من المقارنة، و تفسيرٌ خاطئ يجعل المديح يبدو لهم كإهانةٍ مستترة أو استهانةٍ بقدراتهم. ولعل القول المأثور (ما خلا جسد من حسد) يلخص هذه الحقيقة الإنسانية.
نسمع ونرى الكثير من المدح لشخصيات معروفة؛ بعضهم يضيء كالشمس فيستحق الثناء، وبعضهم “نسمع جعجعة ولا نرى طحينًا”.
لم يطلب ولي العهد منّا مدحه، غير أن له الحق في أن يُمتدح وقد رسم للمملكة سياسة خارجية هادئة، تقوم على دبلوماسية مؤثرة وقوية، لكنها بعيدة عن الضوضاء. فهي سياسة لا تتدخل مباشرة في شؤون الآخرين، بل تدعم بهدوء، وتسعى لتجنب الاصطدام المباشر قدر المستطاع. إنها دبلوماسية ناعمة المظهر، قوية الجوهر، توظّف النفوذ الاقتصادي للمملكة ومكانتها السياسية بأسلوبها المعتاد: قلة في الكلام والإعلام، وكثرة في الفاعلية والتأثير. وفي الوقت ذاته، تبقى هذه السياسة حازمة وصارمة تجاه كل من يحاول المساس بأمن المملكة.
ألا يستحق الثناء والمدح ؟! هل نصمت حتى نبتعد عن شبهة أن نكون أبواقًا؟! فالمدح هنا ليس تبعية، بل شهادة حق، وصوت إجلال يليق بإنجازٍ يُرى ويُلمس.
السعودية ركيزة الأمن و العون فمنذ عقود، وهي تقف إلى جانب جاراتها، تمد يدها في الأزمات، وتشاركها في البناء والاستقرار. واليوم، حين تعزز قدراتها العسكرية والاقتصادية، فهي لا تفعل ذلك لتستعرض، بل لتؤكد أن أمن المنطقة كلٌّ لا يتجزأ، وأن قوتها هي حماية للجميع.
إن ثناءنا وامتداحنا لأميرنا ليس لأننا أبواقًا، إنما كلماتنا أنغام فخرٍ تنبع من قلبٍ يرى بعينه إنجازًا ويشعر بروحه مستقبلًا مبهرًا.
فليغضب من يغضب، وليغار من يغار، فإن كان حبنا وفخرنا بأميرنا يجعلنا أبواقاً في أعينكم، فليكن… كلنا أبواق لمحمد أبواق تصدح لا بالمديح الأجوف، بل بأغنية وطنٍ يكتب قصيدته السامية.. قصيدةً عنوانها: قوة تحمي، ورؤية تبني، وفخرٌ يليق بالعرب جميعاً.
