قد لا أجد وصفًا دقيقًا لما سأطرحه هنا؛ أهو موضوع اجتماعي أم حالة إنسانية أو ظاهرة متكررة؟ لكن كونوا على يقين أنني لا أعمّم حديثي على الجميع. ومع ذلك، لا يمكننا إنكار وجود هذه التصرفات التي تستحق أن نتوقف عندها ونتخذ إجراءً.
حين نفقد قريبًا من الدرجة الأولى، نتوجه إلى مغسلة الموتى لوداعه وتقبيله قبل أن يُحمل إلى المسجد للصلاة عليه. هناك، يجتمع عدد كبير من الأقارب أمام باب المغسلة بانتظار الإذن بالدخول. يُكشف عن وجه الميت لتوديعه، وبعضهم يتعمد كشف إصبعه ليرى الحاضرين سبابته مرفوعة بالشهادة، ثم يبدأ الحديث: “وجهه منير”، “مبتسم”، “من أهل الجنة” أو على العكس، تُسمع كلمات جارحة مثل “وجهه أسود”. حينها يتضح أن بعض الناس جعلوا وداع الميت ساحة للتأويل والحديث، بدل أن يكون لحظة خشوع وخضوع لله. ومع أن الشرع بيّن لنا عِظم أجر الصلاة على الميت، وهو قيراط مثل جبل أُحد، إلا أن نية البعض اليوم تغيّرت عند الدخول للسلام عليه. ومهما كثر اللغط، يبقى بين الناس من يحفظ للميت حرمته، ويقف عند الوداع بخشوع ووعي صادق.
سافرتُ يومًا إلى مدينة أخرى للصلاة على والدة إحدى المعارف، امرأة كبيرة في السن لم ألتقِ بها من قبل، لكنني أعرف ابنتها جيدًا. وصلتُ مبكرًا، وعلمت أن الابنة برفقة والدتها في المغسلة، فتوجهت مباشرة إلى المسجد أنتظرها هناك. ازداد عدد الحضور، وحضرت الابنة المكلومة، فالتف الناس حولها لمواساتها. وقبل دخول وقت الصلاة بدقائق، وصلت سيدة متأخرة قادمة من مدينة أخرى، أدّت الصلاة المفروضة وصلاة الجنازة، لكنها كانت غاضبة وتندب حظها. سألتني: “هل ذهبتِ للسلام على الجنازة في المغسلة؟” أجبتها: “لا”. فأخذت تسأل وتزمجر: “ليتني رأيتها قبل أن يأخذوها”. كان بينها وبين المتوفاة عداوة قديمة، فجاءت لا لتنال الأجر أو تواسي أهلها، بل لتتأكد هل هي من أهل الجنة أم من أهل النار!
خفق قلبي خفقة رعب وخوف؛ كنا في موقف جلل: روح فاضت إلى بارئها، وابنة تبكي أمها، ومع ذلك هناك من يشدّ الرحال من مدينة إلى أخرى لا طلبًا للأجر، بل لرؤية وجه الجنازة وتحديد مصيرها. إن لم يهزّك الموت فأنت إنسان ميت، ومن لا يتأثر في هذه المواقف فليترحم على قلبه.
إحدى السيدات روت لي أنه عند وفاة والدتها، وبينما كانت هي وأخواتها يستعدن للدخول للسلام عليها، فوجئن بامرأة تحاول الدخول عنوة. سألنها: “من أنتِ؟” فأجابت: “أنا من أهل الجنازة”. فقالوا لها: “نحن أهل الجنازة”، لكنها تجاهلتهم وأرادت الدخول بالقوة، فصرخن واستدعَين الأمن، فهربت مسرعة. سألتها: “لماذا خفتم منها؟” فقالت: “خشينا أن تكون ساحرة جاءت لتدُسَّ سحرها مع الجنازة”.
وهذه الحادثة ليست سوى مثال على ما قد يحدث من تجاوزات عند الجنائز، فقد شاهدت لقاءً على اليوتيوب مع مغسل أموات في دولة مجاورة، ذكر فيه قصة فتاة طلبت الدخول بمفردها لوداع والدها. خرج الجميع، وبعد أن انتهت، دخل المغسل ليتأكد من تغطية الجنازة، فلاحظ وجود حبر على إصبع المتوفى. اتضح أن ابنته قامت بتبصيمه على أوراق بسبب خلافات عائلية حول الميراث!
إحدى قريباتي، من هول ما رأت وسمعت من تصرفات بعض الناس مع الجنائز، أوصت أبناءها وبناتها ألّا يسمحوا لأحد بالدخول عليها بعد وفاتها، حتى أبناءها أنفسهم وأن يُعجل في الصلاة عليها ودفنها، ودومًا تؤكد ضرورة الالتزام بوصيتها.
قد يفتح الله للعاصي باب التوبة في لحظة خاطفة، وربما قبل أن يلفظ أنفاسه بدقائق، وقد يزلّ الصالح في غمضة عين. فلماذا نفتش في أسرار الراحلين؟ لا تغترّ بعملك، ولا تزدري مذنبًا، فمصائر القلوب بين يدي الرحمن، يقلبها كيف يشاء.
وداع الميت ليس سنة لازمة، غير أن العلماء أجازوا تقبيل الميت بعد وفاته، ونذكر هنا ما فعله أبو بكر رضي الله عنه حين دخل على النبي ﷺ بعد موته، فكشف عن وجهه الشريف وقبّله وقال: “بأبي أنت وأمي، طبت حيًا وميتًا، والله لا يجمع الله عليك موتتين”. أما ما يفعله بعض الناس اليوم من عرض الجنازة ليودعها الأقارب والأصحاب واحدًا تلو الآخر، فهو بدعة لم تكن معروفة في عهد النبي ﷺ ولا أصحابه. بل كان الميت إذا مات يُسارع في تجهيزه من تغسيل وتكفين وصلاة ودفن، لقول النبي ﷺ: “أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحةً فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم”.
كيف نحفظ خصوصية موتانا؟
قد يكون من المناسب التفكير في استحداث وظيفة تُسمّى “مراقب جنازة” أو “أمن الجنائز”، لست أعلم إن كانت موجودة بالفعل، لكن الحاجة إليها ملحّة. يقف هذا المراقب عند باب المغسلة، فلا يسمح بالدخول إلا للأقارب من الدرجة الأولى بعد التحقق من هوياتهم، أو لمن يأذن أهل الميت بدخوله من الأصدقاء والمقرّبين. بذلك يُغلق باب الفوضى، ويُمنع صغار العقول من التجرؤ على حشر أنفسهم لرؤية الميت أو التحدّث عن مصيره. أمواتنا ليسوا مشهدًا للفرجة، بل لهم حرمة وخصوصية. اجتهدوا في عملٍ يضيء خاتمتكم، ولا تفتشوا في مصير من غادروا، فهم في كنف ربٍّ رحيمٍ بهم أحنّ من أمهاتهم.
