مقال بقلم: سمو العتيبي بعنوان (( نرجسية الوالدين الأبناء أمانة ومسؤولية ))

في الحديث عن نرجسية الوالدين، لا أنطلق من منبر التمرد ولا أرفع راية العقوق، بل أكتب من قلبٍ يوقن أن بر الوالدين من أعظم القربات إلى الله وأوسط أبواب الجنة، وأن رضاهم نورٌ في الدنيا وظلّ في الآخرة. لكنني أؤمن أيضًا أن الصمت عن الأذى النفسي لا يُعد برًا، وأن تسليط الضوء على السلوكيات المؤذية لا يعني جحودًا، بل هو دعوة لفهم أعمق، ورحمة أوسع، وإصلاح يليق بمقام الوالدين وكرامة الأبناء.
هذا المقال ليس صراعًا بين الأجيال، بل محاولة لفهم كيف يمكن أن تتسلل النرجسية إلى علاقة يُفترض أن تكون مأوى للرحمة، وكيف يمكننا أن نواجهها دون أن نفقد البر، أو نقطع الصلة.
لم أختر هذا الموضوع، بل هو من اختارني حيث أنني وقعت على منشورٍ وضعته إحدى الفتيات على أحد منصات التواصل الاجتماعي، كتبت ما هو نصه: “عطوني موقف مستحيل تنسونه؟”، وابتدأت بنفسها حيث كتبت: “أنا مرة انقبلت بعثة على بريطانيا وذاك اليوم اللي كنت بسافر فيه أهلي سرقوا جواز سفري عشان ما أسافر”، وجاءت التعليقات أكثر من (١٧) ألف تعليق وأغلبها كانت تحكي قصصًا غريبة، تتحدث عن الجانب المظلم للعلاقة الأبوية، والأشد غرابة عدد مرات الإعجاب التي حصلت عليها تلك التعليقات!! وكأن الجميع يعاني بصمت! سأكتفي بذكر بعضٍ منها:
١/ “حاربت أهلي عشان بس أدرس الثانوي وآخر شي قمت الصباح بداوم لقيت ابوي جايب ملفي وحاطه عندي” حصل على عدد (555) إعجاب.
٢/ “دخلت تعليقات أكتب مشكلتي طلعت منها أبكي ونسيت مشكلتي وعرفت المكسور من الأهل لا يشفى مهما كبر ومر عليه زمن بكل شي الله يشفينا من طغيان أهلينا” حصل على عدد (207) إعجاب.
٣/ “تخرجت وقدمت وجاني قبول وزارة الدفاع وأمي رفضت وبعدها جاني قبول بحرية رفضت وكل لا قدمت عسكرية تدعي إن شاء الله ما تنقبل (عاطل ولا توظفت)” حصل على عدد (30) إعجاب.
٤/ “كبرنا وعرفنا إن الأهل مو سند إلا أكبر عدو أقسم بالله” وهذا التعليق حصل على عدد (3758) إعجاب!!
هذه التعليقات وغيرها تؤكد وجود نرجسية الوالدين، وضرورة عدم تجاوزها أو الاستهتار بها.
الأطفال يولدون بنورٍ في وجوههم، بحلم صغير يكبر معهم، لكن للأسف، في بيوت كثيرة يُطفأ هذا النور على يد أقرب الناس إليهم، ليس بالضرب أو القسوة الظاهرة فحسب، بل بما هو أخطر وأعمق .. نرجسية الأهل.
كم من شاب درس تخصصًا لا يحبه فقط لكي يفخر به أبويه، وكم من فتاة حُرمت من أبسط اختياراتها، وكم من طفل نام ليالي طويلة وهو يتمنى كلمة حب صادقة غير مشروطة بدرجة في الامتحان أو بإنجاز يُرضي غرور والديه!
نرجسية الوالدين قاسية، فهي لا تترك كدمات على الجسد، لكنها تترك جروحًا غائرة في الروح وتلبس أقنعة متعددة. أحيانًا تأتي على هيئة انتقاد لاذع حيث يُقابل التعبير عن الذات بالرفض أو السخرية، وأحيانًا تُمارس في شكل تحكم كامل في الملبس أو التخصص الجامعي أو حتى اختيار الأصدقاء. وأحيانًا أخرى تتخفى في حرمان صامت، ويعاد تعريف الحب على أنه طاعة لا تفاهم، وتُقارن إنجازات الأبناء بغيرهم، لا لتحفيزهم، بل لتقزيمهم. المؤلم في الأمر أن الأبناء الذين نشأوا في بيئة كهذه يحملون معهم عقدة “عدم الكفاية” يظلون طوال حياتهم يبحثون عن العاطفة واعتراف الآخرين بحقوقهم التي لم يجدوها في بيتهم الأول، أو يتحولون بدورهم إلى نسخ نرجسية جديدة تُعيد إنتاج الحلقة نفسها.
أعتقد أن أخطر ما تفعله نرجسية الوالدين هو سرقة حق الأبناء في أن يكونوا أنفسهم. قد يعيش الشاب حياته كلها في مهنة لم يخترها، أو في زواج فُرض عليه، أو في صراع داخلي لا ينتهي بين ما يريد وما يُطلب منه أن يكون.
مع الأخذ في الاعتبار أنه في بيوت أخرى، يغيب الحوار الصادق بين الوالدين وأبنائهم، فتُتخذ القرارات وتُفرض التوجيهات دون مساحة للتفاهم أو تفسير. ينشأ الأبناء في ظل هذا الصمت التربوي، وهم يظنون أن ما يُمارس عليهم من ضوابط وتوجيهات إنما هو تضييق لا مبرر له، ومواجهة لرغباتهم وأحلامهم.
لكن حين ينضج الفكر وتتسع الرؤية، يدركون أن تلك التصرفات كانت مظلة حماية، فيشكرونهم على ما ظنوه يومًا قيدًا.

ما السبيل إلى التعافي من أثر نرجسية الأهل وتجنب تكرارها؟!
الكاتبة ستيفاني إم كريسبيرج معالجة نفسية متخصصة في علاج ضحايا الاعتداء النرجسي وذات خبرة واسعة في مساعدة الأفراد على التعافي من العلاقات السامة ذكرت في كتابها (بنات الأمهات النرجسيات) أن فهم ديناميكية العلاقة بين الأم وابنتها، خاصة عندما تكون الأم ذات سمات نرجسية هو حجر الزاوية في رحلة التعافي الذاتي وذكرت أحد أبرز آثار النرجسية على بنات الأمهات النرجسيات هو تدهور تقدير الذات، فنتيجة للنقد المستمر، والتجاهل العاطفي، والتلاعب النفسي، تنشأ الإبنة وهي تحمل صورة سلبية عن نفسها. قد تجد صعوبة في الثقة بقراراتها وتشعر بأنها غير جديرة بالحب والاحترام. الكاتبة تقدم استراتيجيات عملية لتعزيز تقدير الذات، وبناء صورة إيجابية، وتحدي الأفكار السلبية. من خلال هذه الاستراتيجيات، يمكن للإبنة أن تبدأ في رؤية نفسها بمنظور جديد، وأن تقدر قيمتها الحقيقية.
أما الكاتبة فيليبا بيري وهي معالجة نفسية بريطانية خبيرة في مجال الصحة النفسية للأطفال والبالغين مؤلفة كتاب (الكتاب الذي تتمنى لو قرأه أبواك) لم تقدم حلولًا جاهزة في كتابها، بل تشجع على التفكير النقدي وتقييم أساليبنا الخاصة في التربية، وركزت على العلاقة الصحية بين الوالدين والطفل، لا يتعلق الأمر بالكمال، بل يتعلق بالقدرة على الاعتراف بالأخطاء والتعلم منها. وتشجع الآباء على التعامل مع مشاعرهم ومشاعر أطفالهم بطريقة صحية، مما يخلق بيئة من الثقة والتفاهم المتبادل.
المجتمعات السليمة تُبنى على أُسر تعترف بأن الأبناء ليسوا “ملكية خاصة” بل أمانة ومسؤولية. الاعتراف بحقوق الأبناء في التعبير عن الذات، وفي التعليم الذي يتوافق مع ميولهم، في بيئة آمنة عاطفيًا، هو جزء لا يتجزأ من العدالة الأسرية والاجتماعية.
نرجسية الوالدين ليست قضية فردية فحسب، بل هي إشكالية تربوية وثقافية ذات امتدادات مجتمعية. أبناء اليوم هم قادة الغد، وإذا نشأوا محرومين من أبسط حقوقهم الإنسانية، فإن المجتمع بأكمله يدفع ثمن هذا الحرمان. الإصلاح يبدأ من الداخل، من وعي الوالدين بدورهم الحقيقي، وأن يكونوا جسورًا لأبنائهم نحو الحياة، لا جدرانًا تحجب النور عنهم.
رسالتي لكل من عانى من نرجسية الوالدين:
قد يكون الألم الذي خلفه جرح الأهل عميقًا، لكننا لا نُشفى بالتمرد، أو القطيعة، بل بالوعي، حين تعترف بما يؤلمك، وتسمح لنفسك بأن تُحتضن بالدعم النفسي أو الاجتماعي من الجهات المختصة، فأنت تبني لنفسك واقعًا جديدًا، وتمضي نحو شفاء حقيقي، ونحن ولله الحمد مجتمع مسلم أنعم الله علينا بنزول القرآن الكريم وبالصلاة، فحين يشتد عليك الهم عد إلى كتاب الله، واطرق باب الصلاة ففيهما الطمأنينة والسكينة.
تذكر دائمًا: الجراح تُشفى، وأنت جدير بحياة تملؤها الراحة النفسية والفرح.

نماذج من الرسائل

زر الذهاب إلى الأعلى