فايزة صديق – مكة المكرمة
أجرينا حوار صحفي مع الأستاذ سراج الخالدي وبدأ الحوار مؤكدًا ” بصفتي أخصائياً اجتماعياً يعمل بشكل مباشر مع هذه الحالات، أستطيع أن أؤكد لكم أن مشكلة الإدمان نادراً ما تكون مشكلة “فرد” واحد، بل هي دائماً انعكاس لـ “نظام” كامل، والأسرة هي نواة هذا النظام.” وأكد أيضًا بأن “دوري لا يقتصر فقط على التعامل مع الشخص المتعاطي، بل يمتد بشكل أساسي لتحليل الديناميكيات الأسرية المحيطة به. نحن ننظر إلى الأسرة باعتبارها “شريكاً أساسياً في العلاج” و”مفتاحاً للتعافي المستدام”” ومن هذا المنطلق ناقشنا المحاور التالية :
- في البداية، كيف تقيّمون دور الأسرة في الوقاية من الإدمان، وهل يمكن اعتبارها خط الدفاع الأول ضد هذه المشكلة؟
بالتأكيد. أرى أن الأسرة ليست مجرد “خط دفاع أول”، بل هي “البيئة الحاضنة” بأكملها. الأسرة هي التي تشكّل القيم الأساسية للفرد، وهي التي تمنحه الشعور بالأمان والانتماء. من واقع خبرتي، الأسرة التي تتمتع بالتواصل الفعّال، والتي توفر “الاحتواء العاطفي” لأبنائها، هي أقوى حصن ضد الإدمان. عندما يجد المراهق في بيته أذناً صاغية وقلباً متفهماً، يقل احتمال بحثه عن “حلول” زائفة أو “هروب” مؤقت في المواد المخدرة. الأسرة التي تضع حدوداً واضحة ممزوجة بالحب، لا بالقمع، هي التي تمنح أبناءها المناعة النفسية الأولى.
- ما أبرز المؤشرات أو السلوكيات التي يمكن أن تنبّه الوالدين إلى وجود خطر الإدمان لدى أحد الأبناء؟
هناك مجموعة من “الأعلام الحمراء” الواضحة التي يجب الانتباه إليها. نحن لا نبحث عن مؤشر واحد، بل عن “تغيّر في النمط العام” للفرد. يمكننا تقسيم هذه المؤشرات إلى أربع فئات رئيسية:
أولاً: مؤشرات سلوكية
1- الانعزال والانطواء: الانسحاب من الأنشطة الأسرية وتفضيل البقاء وحيداً.
2- السرية المفرطة والكذب: إخفاء مكان التواجد، أو هوية الأصدقاء، والكذب بشكل متكرر حتى في الأمور البسيطة.
3- العدوانية والعصبية: ردود فعل مبالغ فيها، وعصبية غير مبررة تجاه الأسرة.
4- فقدان الشغف: التخلي المفاجئ عن هوايات أو اهتمامات كان يستمتع بها سابقاً.
ثانياً: مؤشرات في الأداء الاجتماعي والأكاديمي
1- التراجع الدراسي: انخفاض مفاجئ وملحوظ في المستوى الدراسي أو كثرة الغياب.
2- تغيير الأصدقاء: الابتعاد عن الأصدقاء القدامى والارتباط بصحبة جديدة “غامضة” وغير معروفة للأسرة.
3- مشاكل في المدرسة أو العمل: كثرة الاستدعاءات، أو الدخول في مشاجرات، أو إهمال الواجبات.
ثالثاً: مؤشرات جسدية ونفسية
1- التقلبات المزاجية الحادة: الانتقال السريع بين الانبساط المفرط (النشوة) وبين الاكتئاب أو الخمول الشديد.
2- اضطرابات النوم: السهر لوقت متأخر جداً وبشكل غير معتاد، أو النوم لساعات طويلة جداً.
3- إهمال المظهر والنظافة: عدم الاهتمام بالنظافة الشخصية أو ترتيب الملبس.
4- علامات جسدية: احمرار دائم في العينين، سيلان الأنف غير المبرر، شحوب الوجه، أو تغير ملحوظ في الوزن (زيادة أو نقصان).
رابعاً: مؤشرات مادية وبيئية
1- الحاجة المستمرة للمال: طلب المال بإلحاح أو اختفاء مبالغ مالية من المنزل.
2- اختفاء مقتنيات: فقدان أشياء ثمينة من المنزل أو بيع المقتنيات الشخصية (مثل الهاتف، الساعة).
3- العثور على أدوات غريبة: وجود أشياء غير مألوفة في غرفة الابن أو حقيبته، مثل (ملاعق محترقة، أوراق لف، زجاجات دواء فارغة، قطرات للعين تُستخدم بكثرة).
– من واقع خبرتك، ما الأخطاء الشائعة التي قد تقع فيها بعض الأسر أثناء تعاملها مع الأبناء في مرحلة المراهقة وتزيد من احتمالية الإدمان؟
هذا سؤال جوهري. المراهقة مرحلة حساسة، والأخطاء فيها قد تكون مكلفة. أبرز الأخطاء التي نراها تتكرر: التسلط المفرط أو الإهمال المفرط: كلاهما مدمر. الأسرة التي تمارس “القمع” والسيطرة الكاملة تدفع المراهق للتمرد في الخفاء. والأسرة “المهملة” التي لا تضع أي حدود ولا تسأل عن ابنها، تجعله يشعر بأنه غير مرئي ويبحث عن أي جماعة تمنحه الاهتمام. انعدام الحوار واستخدام “النقد” بدلاً من “النصح”: عندما يكون كل تواصل الأسرة مع المراهق عبارة عن أوامر، أو لوم، أو مقارنات سلبية (مثل: “انظر إلى ابن فلان”)، فإننا نغلق باب التواصل. يفقد المراهق الثقة في أهله كمرجع آمن. التعامل مع الفضول على أنه جريمة: المراهق فضولي بطبعه. عندما يسأل عن التدخين أو المخدرات، والرد يكون بالصراخ أو العقاب، نكون قد خسرنا فرصة ذهبية للتوعية. الرد الصحيح هو الحوار الهادئ والمفتوح. انتهاك الخصوصية بشكل مبالغ فيه: التفتيش الدائم في أغراض المراهق وهاتفه دون مبرر واضح يكسر الثقة ويجعله أكثر حذراً وسرية.
- كيف يمكن للأسرة أن تقدم الدعم النفسي والمعنوي للمدمن أثناء فترة العلاج دون أن تتحول العلاقة إلى ضغط أو مراقبة مفرطة؟
ذا هو التحدي الأكبر: إيجاد التوازن بين “الدعم” و”التمكين السلبي”. المطلوب هو “الدعم الواعي” أو ما نسميه “الحب الحازم” يتم ذلك عبر: التعاطف لا الشفقة: يجب أن يشعر المتعافي أن أسرته تتفهم معاناته كـ “مريض” يحتاج للعلاج، لا كـ “مجرم” يحتاج للعقاب. لكن هذا التعاطف لا يعني التهاون مع سلوك الإدمان. وضع حدود صحية وواضحة: مثلاً: “نحن نحبك وندعم علاجك، لكننا لن نسمح بوجود مواد مخدرة في المنزل”، أو “لن نمنحك أموالاً بشكل مباشر، لكننا سندفع تكاليف علاجك وطعامك”. الاحتواء بدلاً من المراقبة: بدلاً من تفتيش غرفته يومياً (مراقبة)، يمكن الجلوس معه وسؤاله: “كيف كان يومك في العلاج؟ ما التحديات التي واجهتها اليوم؟ (احتواء). المراقبة تزيد التوتر، والاحتواء يبني الثقة. التركيز على “التعافي” وليس فقط “التوقف”: الدعم لا يعني فقط مراقبة “هل تعاطى أم لا؟”، بل يعني تشجيعه على بناء حياة جديدة، إيجاد هواية، العودة للدراسة أو العمل. يجب أن يروا فيه الإنسان، لا المدمن فقط.
- ما الدور الذي يمكن أن تلعبه التوعية الأسرية والمجتمعية في الحد من انتشار الإدمان بين الشباب؟
دورها محوري، وأنا أصفه دائماً بأنه “اللقاح” النفسي والاجتماعي. هذا الدور يعمل على مستويين متكاملين:
على مستوى الأسرة (التحصين الداخلي): التوعية هنا تعلّم الأهل “كيف” يتحاورون مع أبنائهم، وما هي المؤشرات التي يجب الانتباه لها. ومن أدواري الأساسية كأخصائي اجتماعي، هو مساعدة الأسر على تغيير هذه المفاهيم الخاطئة؛ ليدركوا أن الإدمان “مرض” يحتاج إلى علاج، وليس “فضيحة” أو “فشل تربوي” يجب إخفاؤه.
على مستوى المجتمع (كسر الحواجز): التوعية المجتمعية هي الأداة الوحيدة لكسر “وصمة العار” هذه الوصمة، من واقع خبرتي، هي السبب الأول الذي يمنع الأسر من طلب المساعدة مبكراً. عندما يخاف الأب على “سمعته” أكثر من خوفه على “حياة ابنه”، فنحن أمام مشكلة مجتمعية خطيرة تحتاج لعلاج. التوعية تخلق بيئة آمنة تشجع على طلب المساعدة دون خوف.”
التوعية المجتمعية تخلق بيئة داعمة، توفر الموارد، وتشجع على الكشف المبكر. عندما يعلم الجميع أن هناك مراكز علاج متخصصة وأن طلب المساعدة ليس عيباً، نكون قد قطعنا نصف طريق الحل
- أخيرًا، ما الرسالة التي توجهونها للأسر التي تواجه هذه المشكلة داخل بيوتها، وما الخطوة الأولى التي يجب أن تبدأ بها؟
رسالتي لهم تتلخص في ثلاث كلمات: لستم وحدكم، لا تيأسوا، تحركوا الآن. لستم وحدكم: ملايين الأسر حول العالم تمر بنفس التجربة القاسية. هذا ليس فشلاً تربوياً بالضرورة، بل هو مرض قد يصيب أي أسرة. لا تيأسوا: الإدمان مرض “قابل للعلاج والتعافي”. لقد رأيت بعيني حالات كانت تبدو ميؤوساً منها، وعادت إلى حياتها الطبيعية وأصبحت أفضل مما كانت. الأمل موجود دائماً طالما هناك رغبة وعمل. أما الخطوة الأولى والفورية التي يجب اتخاذها فهي: “طلب المساعدة المتخصصة فوراً.” لا تحاولوا حل المشكلة بمفردكم بالصراخ، أو الحبس، أو الوعظ. الإدمان مرض معقد (نفسي وجسدي واجتماعي). الخطوة الأولى هي التواصل مع أخصائي إدمان، أو مركز علاج معتمد، أو جمعية متخصصة في علاج الإدمان (والتي غالباً ما تقدم دعماً للأسرة أيضاً)، أو اخصائي نفسي او اخصائي اجتماعي. هؤلاء المتخصصون هم الأقدر على تقييم الحالة ووضع خطة علاجية مناسبة للأسرة بأكملها، وليس للمدمن فقط، لأن علاج المدمن يبدأ دائماً من علاج البيئة المحيطة به.
في ختام هذا الحوار نشكر الأستاذ سراج الخالدي على وقته وعلى ما قدمه من معلومات ونصائح فيما يخص دور الأسرة في الإدمان.
