مقال بقلم/ سمو العتيبي بعنوان (( من صهرته التجربة توهج ))

الناضجون فكريًا هم أولئك الذين تجرأوا على مواجهة أنفسهم، على مراجعة أفكارهم، على الاعتراف بأخطائهم. هم الذين لم يكتفوا بأن يكونوا ضحايا، بل اختاروا أن يكونوا رواة لحكاياتهم، وأن يحولوا الألم إلى وعي.
في كل مرة ألتقي فيها بشخص ناضج فكريًا، لا أرى أمامي مجرد عقل متزن أو رأي رصين، بل أقرأ بين سطور ملامحه فصولًا من الألم، ومغامراتٍ من التحدي، وانكساراتٍ صنعت منه إنسانًا مختلفًا. النضج لا يُهدى، بل يُكتسب، ولا يُولد مع الإنسان، بل يُولد فيه بعد أن يمر بمرحلة المخاض الطويلة التي نسميها (التجربة).

النضج نادر، لأننا نعيش في عالم يقدس السرعة ويخشى العمق. حين نقابل شخصًا ناضجًا، نشعر وكأننا أمام جبلٍ صمد في وجه الرياح، أو شجرةٍ أثمرت بعد سنوات من الجفاف. النضج يلفت لأنه مكلف، ولأنه لا يُشترى، بل يُدفع ثمنه.

كلما تذكرت أول مديرة لي في العمل، أشعر أنني قابلت النضج وجهًا لوجه، كانت سيدة ناضجة وقورة، يسبقها حضورها قبل كلماتها، وتستقر في القلب قبل أن تُفهم بالعقل. كنت أراقبها بصمت وأتساءل: كيف وصلت إلى هذا الاتزان؟ كيف امتلكت هذه الحكمة؟ كنت أظن أن الأمر لا يتعدى التدريب والممارسة، وأن النضج يُكتسب كما تُكتسب المهارات. لكن السنوات كشفت لي ما لم أكن أراه.

عرفت قصتها كاملة، وكانت مؤلمة جدًا. عانت من ظروف أسرية قاسية، تركت أثرًا عميقًا في روحها، ونتج عنها أزمات صحية مزمنة، جعلت من جسدها ساحة معركة، ومن روحها قلعة صامدة. لم تكن مجرد مديرة، بل كانت مستشارة، مرشدة، إنسانة تحمل في طياتها تجارب لا تُروى إلا لمن يفهم أن النضج لا يأتي في مواسم الراحة، بل يُولد حين يشتد العسر، ويضيق الأفق، ويُختبر الصبر.
كل تلك الظروف لم تكسرها، بل شكّلتها. صنعت منها شخصًا مميزًا، ناضجًا، قادرًا على احتواء الآخرين، لأنها احتوت نفسها أولًا. ومن يومها، أدركت أن النضج ليس هدفًا سهلًا، بل رحلة مؤلمة، لكنها تستحق.

وحين رأيت النقيض، أثناء مسيرتي العملية حيث عملت مع مديرة أخرى، كانت بعيدة كل البعد عن النضج والحكمة. رغم سنوات خبرتها، كانت متسرعة في اتخاذ قراراتها، تتأثر بسرعة، وتصدق كل وشاية تُنقل إليها دون تمحيص. كانت ردود أفعالها انعكاسًا للانفعال لا التأمل، وكأنها تعيش في حالة طوارئ دائمة.
هذا النموذج علمني درسًا لا يُنسى: أن النضج لا علاقة له بالعمر البتة، ولا بالمنصب، ولا بعدد السنوات في السيرة الذاتية. النضج هو ثمرة الوعي، لا الزمن. هو نتيجة مراجعة الذات، لا تراكم التجارب فحسب. هناك من يكبر دون أن ينضج، وهناك من ينضج قبل أن يكبر.
كثيرون يظنون أن النضج يأتي مع السنوات، لكن الحقيقة أن بعض الشخصيات تنضج في وقت مبكر لأنها خاضت ما يكفي من الألم لتفهم الحياة. النضج ليس عددًا في بطاقة الهوية، بل أثرٌ تتركه التجربة في طريقة التفكير، في ردود الفعل، في نظرة الإنسان لنفسه وللآخرين. هناك من عاش أربعين عامًا دون أن يتعلم شيئًا، وهناك من عاش عشرين عامًا وخرج منها بحكمة العجائز.

وعند تأمل الصورة كاملة نصل إلى جوهر المسألة، أن النضج ليس نهاية بل بداية.
النضج لا يعني الوصول، بل الاستعداد للانطلاق من جديد، ولكن هذه المرة بعينٍ ترى أبعد، وقلبٍ يحتمل أكثر، وعقل يميّز بين الضجيج والحقيقة. هو ثمرة التجربة، لكنه أيضًا بذرة لحكمةٍ أكبر، ومسؤوليةٍ أعمق، ورسالة أصدق.

زر الذهاب إلى الأعلى