لم أكتب مقالي هذا وأنا أراقب من بعيد، بل لأنني كنت يومًا في مرماها. كنت صغيرة، هشة، وعندما يغضب بعض أفراد أسرتي أو يشتد الخلاف بيننا، كانوا يعيرونني بلقب “دمعة”. لم يكن مجرد اسم، بل سهمًا يصيب قلبي في مقتل. كنت لا أحتمل سماعه، أبكي بشدة وكأنهم ضربوني، لا لأن الكلمة مؤذية بذاتها، بل لأنني كنت أعلم أنها لا تُقال إلا وقت الخصام، وما قالوها إلا لإغاظتي. كانت “عيرة”.
وسبب هذه العيرة أنني كنت حساسة جدًا، أبكي بسرعة، وأتأثر حتى لو لم يكن الأمر يخصني. أرى شخصًا يتألم، فأبكي لألمه، وكأنني أعيش حزنه في داخلي. حتى في المسلسلات أو الأفلام، أي مشهد مؤثر يجعل دموعي تنهمر دون سابق إنذار. لم يكن ذلك ضعفًا، بل قلبًا حيًا يشعر بكل شيء.
ولم أكن الوحيدة، فهناك غيري من كان له لقب يُستدعى به وقت الغضب، وكأننا نُعرّف بأوجاعنا لا بأسمائنا. لكن حين كبرنا، اندثرت تلك الألقاب، وبدأنا نفهم أن الكلمات تؤذي، وأن المشاعر تستحق الاحترام.
يقول رسول الله ﷺ: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده».
لكنني فوجئت في وقتنا الحاضر بعائلة، لا زالوا يعيشون في ذلك الزمن. يستخدمون “العير” ببراعة مؤلمة، يوجهونها لكل من لا يروق لهم: سيدة، رجل، طفل. وكأنهم لم يواكبوا تبدل السنين ولم يغادروا محطة الأمس يتفننون في اختيار الألقاب المؤذية، ويظنون أن الكلمة لا تقتل.
وما زلت أذكر ذلك اليوم حين سمعتهم ينادون طفلًا صغيرًا بـ”دمنة”. كان ممتلئًا وقصير القامة، لكنه لا يزال في بداية عمره، سيكبر، سيطول، سيتغير، لكن هل ستبقى هذه “العيرة” معه حين يكبر؟ هل ستصبح جزءًا من صورته الذاتية؟ وكان يحمل اسمًا جميلًا لم أسمع أحدًا منهم ناداه باسمه الحقيقي حيث غلبت شهرة عيرته على اسمه!
وطفل آخر ينعتونه بـ”صماخ”، ولم أجد رابطًا بين شكله الخارجي وهذا اللقب، وكأنهم فقط يبحثون عن أي كلمة تُشعره بالغرابة أو العزلة. وآخر يُنعت بـ”الطلي” أمام الجميع وأتذكر وجهه جيدًا لم يبكِ، ولكنه لم يعد يضحك كما كان، وطفل جميل كانوا ينعتونه بـ “نبات” وكان ينفجر باكيًا وعرفت لاحقًا أن الطفل يرفض أكل اللحوم بل يمرض إذا أكلها ولا يأكل إلا النباتات وغيره وغيره… ألقاب تُرمى بلا رحمة، وكأنها سهام لا تُخطئ، يتفننون في انتقاء ما يؤلم، لا ما يُضحك. هذا السلوك لا يؤذي فقط من يُعير، بل يخلق بيئة مشحونة، تفتقر إلى الأمان العاطفي. يقول الله عز وجل : ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: 83] وفي المثل العربي: “جراحات السنان لها التئام، ولا يلتئم ما جرح اللسان”. الكلمة قد ترفع إنسانًا أو تجرحه جرحًا لا يندمل. فما بالك بطفل صغير أو شيخ كبير يُختزل في لقب جارح؟
أذكر حادثة حقيقية، كان بطلها رجلًا عُرف منذ طفولته بلقب سيئ ظل يلاحقه في مراهقته، حتى وهو اليوم شيخ كبير في السن. كان جماعته لا يزالون يتداولون هذا اللقب في غيابه، يذكرونه به في مجالسهم وكأنه اسمه الحقيقي.
وفي أحد المجالس، كان هناك ضيف جديد لا يعرف الرجل ولا قصته، فجلس يستمع إلى أحاديثهم وقصصهم عنه وهم يكررون عيرته. وبينما هم منشغلون بالحديث، دخل الرجل فجأة، فقال بعضهم: “حضر فلان” مستخدمين عيرته بدل اسمه، فسكتوا على الفور وقاموا للسلام عليه.
وحين جاء دور الضيف للترحيب، قال له ببساطة: “حياك الله يا…” وذكر عيرته، ظنًا منه أنها اسمه أو لقب عائلته، ولم يتوقع أبدًا أن تكون كلمة جارحة. عندها صُدم الرجل، ونظر إليه نظرة حادة جعلت المجلس كله يصمت. خجل الحاضرون، فهم لا يجرؤون على نعته بها أمامه، بينما الضيف وقع في حرج شديد.
فقال له الرجل بحدة: “هل تعيرني أم تسلم علي؟” فارتبك الضيف واعتذر على الفور، وأقسم أنه كان يعتقد أن ما سمعه هو اسمه الحقيقي. عندها أدرك الرجل أن جماعته كانوا يتحدثون عنه بعيرته في غيابه، فغضب غضبًا شديدًا، ونشأ خلاف كبير بينهم. يقول الحق سبحانه: ﴿مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18] فكل كلمة محسوبة ومسجلة، ولا يجوز الاستهانة بها. وقال ﷺ:
«إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا في النار» [رواه الترمذي].
إن ما نحتاجه اليوم هو وعي مجتمعي يرفض إطلاق “العير” على الآخرين، ويدرك أن الكلمة قد تكون صدقة أو خطيئة. وأن المجتمع الراقي هو الذي يحمي أفراده من السخرية، ويصون كرامتهم، فلنختر أن تكون كلماتنا حياةً لا أذى، ورحمةً لا عير.
أعلم أن بين من يقرؤون هذه الكلمات الآن من حملوا عيرًا في طفولتهم، وذاقوا مرارة الوصف الجائر، وأرجو من قلبي أن لا يكون عددكم كبيرًا… و أتمنى أن يكون العالم قد كان أرحم بكم مما كان بي.
يقول الإمام الشافعي:
”لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ، فكلك عورات وللناس ألسن”.
فلنكن رحماء في وصفنا، حكماء في نقدنا، نختار من الكلام ما يُصلح لا ما يُفسد، وما يُحيي لا ما يُميت.
لا تُطلق عيرًا، بل أطلق فهمًا، وبدل أن تجرح، اجبر. ففي عالم يضج بالألم، كن أنت اللسان الذي يداوي.