مقال بقلم : سمو العتيبي بعنوان (( (قلبوس) لغة الحنان الجديدة ))

في عالمٍ تتزاحم فيه الكلمات وتُستهلك فيه المفردات حتى تفقد بريقها، وُلدت “قلبوس” من رحم لحظة إنسانية خالصة. لم تأتِ من معجم، ولم تُصاغ في مجلس لغوي، بل خرجت من القلب حين فاض بالحنان، ومن العين حين رأت كائنًا صغيرًا يستحق كل الحب والرحمة.

في إحدى المناسبات العائلية، جاءت سيدة تحمل طفلها الرضيع، وكان يبتسم ابتسامةً تأسر القلب. حملته بين يدي، وقبّلته، فبادلني بابتسامةٍ أجمل، فخرجت مني الكلمة عفويًا: “يا قلبوس”، وكررتها وأنا أقبّله مرة أخرى. ثم أعدته إلى والدته، دون أن أشعر بأي حرج، فأنا لا أخجل من التعبير عن مشاعري أمام الناس، ولا أطيق التصنّع والتكلف.

مرت أشهر على تلك اللحظة، وفي عزيمة عشاء جمعتني بنساء من الأقارب، دخلت إحداهن تحمل ابن أختها، وقد ألبسته ملابس جديدة كهدية. أعجبت الأم بمنظره، واحتضنته وقالت: “يا قلبوس”، ثم سكتت وكأنها اقترفت خطأ، قبل أن تضيف: “قلبوس على قولة سمو”، وذلك لتنفي ارتباطها بالكلمة، وفي الحقيقة أنني لم أسمعها من أحد قبلي.

بحثت بعدها في المعاجم عن معنى “قلبوس”، فلم أجد لها وجودًا سوى في موسوعة ويكيبيديا، حيث ورد أنها اسم لفراشة جميلة الألوان. لكن “قلبوس” التي نطقتها لم تكن اسمًا لحشرة، بل كانت ترجمة صادقة لانفعالٍ داخليٍّ بلغ ذروته، حين بلغ مني الحنان مبلغه.

لهذا، وضعت لها تعريفًا خاصًا:

“قلبوس” هي الكلمة التي تُقال عندما يتدفق الحنان خارج البدن، حين تعجز المفردات المعتادة عن وصف شعورك تجاه طفلٍ رضيع أو موقفٍ إنساني يوقظ فيك أعمق ما فيك. هي لحظة لا تُشرح، بل تُحسّ.

لكن كما هي العادة، لا يسلم الصدق من التأويل، ولا تنجو العفوية من سخرية المتصنّعين. بعضهم أخذ “قلبوس” مأخذًا ساخرًا، وربطها باسمي وكأنها نقيصة، يرددها عند مداعبة الأطفال ويضيف: “قلبوس على قولة فلانة”، وكأن الحنان أصبح مادة للتندر، لا للتقدير.

أما أنا، فلا أرى في “قلبوس” عيبًا، بل أراها لحظة صدق نادرة، وكلمة جميلة خرجت من أعماق الشعور. وأظن أن من سخروا بها، راقت لهم الكلمة في سرّهم، لكنهم لم يملكوا الجرأة ليعترفوا بذلك، فاختاروا طريق التصنّع والتعالي، وكأنهم يخجلون من الاعتراف بأنهم شعروا بشيء جميل.

“قلبوس” ليست مجرد لفظ، بل حالة وجدانية، وموقف إنساني، وتجربة شعورية لا تُختزل في القواميس. هي مفردة اخترعتها لأمنح الحنان اسماً، ولأقول إن اللغة لا تزال قادرة على أن تُولد من القلب، لا من الكتب.

وهي ليست مجرد كلمة خرجت من فيض الشعور، بل دعوة لإعادة الاعتبار للحنان في زمنٍ يتسارع فيه كل شيء إلا المشاعر. هي نداء لكل من ظن أن الرقة ضعف، ولكل من خجل من التعبير عن دفء قلبه.

“قلبوس” هي إعلان ثقافي بأن الحنان ليس هامشًا، بل جوهرًا، وأن اللغة قادرة على أن تخلق مفرداتها حين تعجز القواميس عن احتواء الشعور.

فلنحتفِ بـ”قلبوس” كرمزٍ للرحمة، وكلمةٍ تنتمي إلى القلب قبل أن تنتمي إلى اللسان، ولنمنحها مساحة آمنة للتعبير، لا ساحة للسخرية أو التصنّع.

 

زر الذهاب إلى الأعلى