في هذا المقال، لن أكتب رأيًا ولا أطرح فكرة جديدة. بل سأروي لكم قصة واقعية.
قصة ليست من نسج الخيال، بل من قلب الحياة، هي حكاية عن السخرية، عن الألم الذي يُصنع بكلمة، وعن عيبٍ لم يختره صاحبه، بل كُتب عليه حين لم يكمل عامه الأول.
سأرويها لكم كما روتها لي والدته، لا لأُدين أحدًا، ولا لأجل العتاب، بل لأجل التبصّر، ولأفتح نافذةً على ما لم نره من قبل، لعلها توقظ فينا شيئًا من الرحمة، ونعيد ترتيب أولوياتنا في الحكم على الآخرين.
في عمر تسعة أشهر، كان ياسر طفلاً صغيرًا حين استقبلت عائلته ضيوفًا من خارج مدينة الرياض، صديق لوالده مع عائلته الذين أقاموا في منزلهم لبضعة أيام. كان لدى الضيوف ثلاثة أبناء تتراوح أعمارهم بين (15 و 18) عامًا، بينما إخوة ياسر لا يزالون أطفالًا صغارًا. وفي الليلة الأولى من الزيارة، أقام والد ياسر وليمة كبيرة احتفاءً بصديقه وعائلته.
في تلك الأثناء، خرج أبناء الضيف إلى مركز تسوق قريب واشتروا كرة قدم كبيرة، ثم شرعوا في اللعب بها بحماس في فناء المنزل، يتقاذفونها بقوة بين أرجلهم. كانت أم ياسر منشغلة بطبيعة الحال بضيافة الزوار، فيما تولّت إحدى العاملات مسؤولية مراقبة ياسر. وبينما كانت العاملة تساهم في تحضير مائدة العشاء، غفلَت عن الطفل، فخرج ياسر إلى الفناء وتجاوزه حتى كاد يصل إلى الشارع. وعند اقترابه من الباب الخارجي، ركل أحد أبناء الضيف الكرة بقوة، فاصطدمت برأس ياسر، الذي ارتطم بدوره بالباب من الجهة الأخرى.
في تلك اللحظة، لاحظت العاملة اختفاء الطفل، فهرعت للبحث عنه. وكان والد ياسر قد شاهد الحادثة، فأسرع إليه وحمله عن الأرض، ثم سلّمه للعاملة التي كانت خلفه، لتقوم بتهدئته، وعاد هو إلى ضيوفه. ظل ياسر يبكي بشدة، بينما ارتبكت العاملة وخافت من تحمل المسؤولية، فهزّته كثيرًا حتى نام مباشرة بعد سقوطه.
في صباح اليوم التالي، استيقظ ياسر وعلى رأسه آثار ضربة واضحة، وانتفاخ في الجبهة بجانب العين، مع جرح صغير. سألت والدته العاملة عن سبب هذه الإصابة، فأخبرتها بما حدث. عاتبتها الأم لأنها لم تبلغها في حينه، ولأنها سمحت له بالنوم مباشرة بعد تعرضه لضربتين، من الباب والكرة.
وبعد نحو أربعة أيام، لاحظت الأم انحرافًا في إحدى عيني ياسر، إذ لم تكن تتحرك بنفس اتجاه العين الأخرى، فساورها القلق وذهبت به إلى والده ليرى بنفسه، لكنه أنكر الأمر وأخبرها أنها تتوهم. وفي اليوم التالي، تأكدت من اختلاف حركة العينين، فأصرّت على أخذه للمستشفى، رغم استمرار والد ياسر في نفي وجود مشكلة.
عند فحصه من قبل استشاري العيون، تبيّن أن العضلة المجاورة للعين التي تعرضت للضربة قد ارتخت، مما تسبب في الانحراف. وبعد سلسلة من الفحوصات، وصف الطبيب نظارة لياسر، وأوصى بارتدائها بانتظام وفق تعليماته، وأحالهم للمراجعة الدورية مع أخصائي الحول.
بدأ ياسر بارتداء النظارة قبل أن يتم عامه الأول، ومع مرور الوقت، بدا أن عينيه سليمتان أثناء ارتدائها، بينما يظهر الحول عند نزعها.
وعندما بلغ الخامسة من عمره، زارهم أحد أعمامه ولم يكن والد ياسر موجودًا، فذهب ياسر وإخوته الأكبر منه للجلوس مع عمهم لحين عودة والدهم من العمل. كان العم يناديه باسم “صفوق”، ويكرر: “تعال يا صفوق، أحضر هذا يا صفوق…”. شعر ياسر بالضيق، فذهب إلى والدته، وبعد فترة لَحِقَ به أحد إخوته وأخبره أن العم يناديه، لكن ياسر رفض العودة إليه. استغربت الأم، خاصة أن هذا العم محبوب من جميع أبنائها، فسألته عن السبب، فأجاب: “عمي يناديني صفوق!”. حاولت تهدئته، قائلة ربما تشبه أحد زملائه في العمل اسمه صفوق لذلك يناديك بهذا الاسم، لكن أخاه تدخّل وقال: “لا يا أمي، عمي يقصد أنه أحول”. اندهشت الأم وسألته عن العلاقة بين الاسم والحول، فأجاب: عمي يقول إن عيون ياسر تصفق مع بعضها البعض، ولهذا اسمه صفوق وليس ياسر وضحك وضحكنا معه، حتى ياسر ضحك معنا، لكن وقع الكلام كان كالصاعقة على قلب أمه.
لم تكن تتوقع أن يصدر هذا التعليق من رجل كبير في مقام والدهم، كان الأجدر به أن يحتوي الطفل لا أن يسخر منه، خصوصًا أن ياسر لا يظهر عليه الحول أثناء ارتداء النظارة، ولم يكن العم قد رآه بدونها ليصدر مثل هذا الحكم. عندها طلبت الأم من أخيه أن يذهب وحده ويترك ياسر معها.
بعد مرور عام تقريبًا، وحين تجاوزت الأحداث حدود المنطق، أعلم أن هناك من سيشكك، ومن سيسخر، ومن سيظن أنها مجرد مبالغة أو خيال مجنون. ولكن هذا ما حدث فعلًا.
ولمن يشكك أو يسخر، أذكّره بقول الله تعالى: “وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا” [الكهف: ٥٦].
قد لا تُصدّق… ولكنها الحقيقة. أصيب ثلاثة من أبناء عم ياسر بالحول، ولدان وبنت، جميعهم أكبر من ياسر وكانوا سابقًا في صحة جيدة. بدأ والدهم يتنقل بهم بين المستشفيات، وأصبحوا يرتدون النظارات. قالوا: إن الأطباء أرجعوا السبب إلى الإفراط في استخدام الأجهزة الإلكترونية ذات السطوع العالي في الظلام، لا سيما قبيل النوم. كان العم مستاءً وحزينًا، يشتكي من أبنائه الذين يتشاجرون ويكسرون نظاراتهم، ويخشى عليهم من التنمر، خاصة ابنته الصغيرة التي كانت في الثامنة من عمرها، إذ كان أقاربهم يسخرون منها قائلين: “الأولاد عادي يكون فيهم حول، لكن أنتِ بنت، من سيتزوجك وأنتِ حولاء؟!”
واليوم، ياسر في الصف الثاني الثانوي، متفوق في دراسته، محبوب من معلميه وزملائه، بارٌّ بوالديه، ولا يزال يرتدي نظارته بثقة وهدوء، وكأنها جزء من رحلته التي صقلته وجعلته أكثر نضجًا وثباتًا.
قال رجلٌ لحكيم: “يا قبيح الوجه! فقال: ما كان خَلْقُ وجهي إليَّ فأحسنه”. لم تكن النظارة التي ارتداها ياسر يومًا عيبًا يُخفى، بل كانت نافذةً إلى بصيرته، ورفيقةً في رحلته نحو التميز. لم يسعَ لإخفائها أو التبرؤ منها، بل حملها بثقة، وكأنه يقول للعالم: “ما كان خَلْقُ وجهي إليَّ فأحسنه”. إن الله هو الخالق البارىء المصور، يهب لكل إنسان صورته التي تليق بحكمته، لا بذوق الناس ولا بأهوائهم. فليس لصاحب الشكل الدميم ذنبٌ يُلام عليه، ولا لصاحب الجمال فضلٌ يُشكر عليه. الجمال الحقيقي هو ما يصنعه الإنسان في قلبه، في أدبه، في برّه، وفي أثره. وياسر، بنظارته التي رافقته منذ الطفولة، لم يكن يومًا أقل جمالًا، بل كان أكثرهم وقارًا واتزانًا.
في زوايا المجالس، وعلى الشاشات، وفي ثنايا الكلمات العابرة، تتسلل السخرية كسمٍّ ناعم، تُطلق على هيئة ضحكة أو تعليق، لكنها تخدش أرواحًا وتكسر قلوبًا. وما أقسى أن تكون هذه السخرية موجهة نحو عيوبٍ لم يخترها أصحابها، بل كُتبت عليهم.
عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال: “إني لأرى الشيء مما يُعاب، ما يمنعني من غيبتِهِ إلا مخافة أن أُبتلى به”.
اللون، الطول، الإعاقة، ملامح الوجه، الصوت، وحتى بعض الطباع النفسية كلها أمور لا تُكتسب، ولا تُنتقى من قائمة خيارات، بل هي جزء من التكوين الإلهي، من سرّ الخلق الذي لا يحق لأحد أن يعبث به أو يستهزئ منه. حين يسخر الإنسان من أخيه بسبب هذه الأمور، فإنه لا يستهزئ به فحسب، بل يتطاول على حكمة الخالق، ويُعلن جهله بقيمة الرحمة والبصيرة.
السخرية ليست خفة دم، بل خفة عقل.
كثيرون يظنون أن التهكم على الآخرين نوعٌ من الطرافة أو الذكاء الاجتماعي، بينما هو في الحقيقة انعكاسٌ لفقرٍ داخلي، وعجزٍ عن إدراك أن الكلمة قد تكون خنجرًا، وأن الضحكة قد تُخفي دمعةً في عين من ضُحك عليه. الساخر يُضحك الناس على حساب كرامة إنسان، وهذا ليس فخرًا، بل سقوطٌ أخلاقي.
في مجتمعٍ يؤمن بالقضاء والقدر، يجب أن تكون الرحمة هي المعيار الحقيقي للإنسانية. أن نُراعي مشاعر الآخرين، أن نُغلف كلماتنا بلطف، وأن نُدرك أن كل إنسان يحمل في داخله معركة لا نراها. فربما من نسخر منه اليوم، هو من سيُعلّمنا غدًا معنى الصبر، أو يمدّ لنا يد العون حين نحتاجها.
فلنقف لحظة مع أنفسنا، ونتساءل:
هل ضحكنا يومًا على من لا يد له في عيبه؟
هل شاركنا تعليقًا ساخرًا؟
هل صمتنا حين كان يجب أن نُدافع؟
إن الاعتراف هو أول الطريق نحو التغيير، والوعي هو بداية الإصلاح. فلنكن ممن يُرممون القلوب، لا ممن يُهشمونها.