مدخل: ما أجمل أن يكون عُرف الأُسر جميعاً:
” أن الأب بعد التقاعد ليس مجرّد مُسنّ، بل هو سيّد مُكرّم، يُصان في مقامه كما يُصان الذهب في خزائنه، وتُحفظ مكانته كما تُحفظ الوصايا في صدور الورثة”.
عزيزي الابن- عزيزتي الأبنة: إنّ الحديث عن الأب بعدالتقاعد ليس شِعاراً عابِراً، بل هو وقفة إجلال أمام تاريخٍ من الكفاح، وسجلٍّ من العطاء، ولتعلموا أنّ التقدير عبادة،
والاحترام ميراث، والوفاء شرفٌ لا يضاهيه شرف. إنّ الأب العظيم حين يطوي صفحة العمل ويتقاعد، لا يطوي معها قيمته، ولا يُسدل ستاراً على مقامه. إنّما التقاعد انتقال من ساحة العرق إلى ساحة العزّ، ومن ميادين الكفاح إلى مجالس الإجلال والافتخار.
60 ستّون عاماً قضاها الأب مُجاهداً في صمت، حاِرساً للأحلام، حامِلاً على كتفيه أثقال الزمان؛ كي يمضي الأبناء خفاقاً؛ أيليق بعد هذا العُمر أن يُترك في الهامش!!،
أو يُقْصى إلى صحراء الفراغ!!، وتموينات البيّاع؛ من أجل تأمين طعام لابناءه الجِيّاع؟!!!
هذا ليس دوره الآن بل تقزيمٌ له وهو يدور بسلِته يبحث عن ضالتِه!!!!!!
ألا فاعلموا… إنّ أعظم العقوق أن يُختزل الأب بعد التقاعد في قوائم المشتريات، أو يُختصر في مشاوير السوق. وهل تليق بالجبالِ وظيفة حمل أكياس؟ وهل يُختصر البحر في جرعة ماء؟! غيّروا ممارساتكم واستحوا.
الأب العظيم ليس مجرّد شخصٍ يودّع وظيفته، بل هو بطل أنهى معركة طويلة في ميادين الحياة، خرج منها مُثقلاً بذكريات التعب، ومكلّلاً بتيجان الصبر.
60 ستّون عاماً من السهرِ والعمل، من التضحية والكفاح، أفلا يستحقّ أن يكون له بعد التقاعد عرشٌ في بيت أسرته ومكانة في قلوب أبنائه؟!!!
لقد آن للأسر أن تعيد النظر في ثقافتها وتقاليدها، وتعاملها مع قائدها، فلا يليق أن يُختزل دور الأب في ادوارٍ بسيطه يغلُبها التهميش وتكليفه بجلب الأغراض أو أداء
المهمّات الصغيرة بحجة هو يحب الحركة؛ هذا عارٌ عليكم؛ وتبريراتكم غير مقبولة ولامنطقية؛ وهذا ليس تكريماً، بل انتقاصٌ من قدسيته ومن مقامه الشامخ. الأب لا يُقاس بما يحمل من أكياس، بل بما حمل من هموم،
ولا يُوزن بما يجلب من حاجات، بل بما قدّم من عطاءات خلال تلك السنوات.
إنّ الواجب على الأسرة أن تنصب له مقاماً يليق بعرقه ودموعه، أن تضع له برنامجاً لا يقلّ شأناً عن عظمة مسيرته، وجدولاً زمنياً يُعيد له معنى الحضور.
فيُستشار في القرار، ويُحتفى به في الدار، وتُفتح له أبواب المجالس كما فُتحت له أبواب المصانع والمكاتب.
فإذا جلس تحدّث، وإذا صمت أُنصت، وإذا أشار أُطيع.
إنّ تكريم الأب بعد التقاعد لا يكون بتركهِ في فراغٍ قاتل أو عزلة صامتة، بل بوضع برنامجٍ فاخر يليق بمسيرته يجمع مابين النشاط الاجتماعي والرياضي والترفيهي والسياحي، وجدولٍ زمني يحفظ له مكانته؛ ويتاح له فرصة اعطاء محاضرات عن مسيرته وتجربته وقطاف
خبرته؛ فهذا المُتقاعد هو كمية خبرات متراكمة جمعت ارهاصات مابين النجاح والتعثر وكل منها خبرة بحد ذاتها يستفاد منها؛ كذلك تُخصّص له أوقات للزيارة والحديث، ومجالس للإنصات والتقدير، وتُقام له أنشطة
تردّ إليه روح الشباب، وتفتح أمامه أبواب المشاركة لا أبواب الإقصاء. فالتقاعد ليس نهاية، بل بداية مرحلة جديدة قوامها الراحة والاحترام، والإجلال والاهتمام.
فلنصنع عُرفاً عائلياً يتوارثه الأبناء( بنين وبنات) كما يتوارثون الميراث، عُرفاً يضع للأب مكاناً مقدّساً بعد التقاعد، فلا يُهمّش ولا يُستغنى عنه، بل يُستشار وتُرفع كلمته ويُحتفى به.
فما أجمل أن يُصبح في بيوتنا عرفٌ يقول: “من تعب ستّين عاماً، يستحق أن يُكرّم كلّ عام”، ومن زرع في دروبنا أملاً، يحقّ له أن يقطف منّا وفاءً.
الأب يا أبناء( بنين؛ وبنات)…….
تاج البيت ومصباح الدار، إذا خبت همّته لا يليق بنا أن نتركه في الظلام، بل نزيده. ضياءً بحبّنا، ونرفعه مكاناً عليّاً بِبرّنا.
أيّها الابناء… يجب أن يكون للأب بعد التقاعد برنامجٌ من الحب، وجدولٌ من العناية، ومكانةٌ لا يطالها الغياب. اجلسوه في صدور المجالس في عِلِّيِّينَ الدنيا.
استشيروه في القرار، أعطوه أوقاتاً مليئة بالفرح، واحفظوا له القداسة كما تحفظون الذهب، واحملوه على أكفّ الوفاء كما حملكم على أكتافكم منذُ نعومةِ أظفارِكم.
من حقّه أن يشعر بالمجدِ في بيتِه، وبالإجلالِ في كل مجلسٍ، وبالوفاءِ في كلِ قلب.
أيّها الأبناء( بنين وبنات)… أُكرر إنّ التقاعد ليس فراغا يُخشى، بل هو موسم حصاد تُقطف فيه ثمار العمر.
ومن الجناية أن نترك الأب يُصارع الملل، أو تكون حياته على هامش العائلة يتسلل له الاحساس بأنه ضيفٍ ثقيل؛ وهذا أمرٌ خطير لو حس الأب العظيم بهذاالاحساس.
بل يجب أن يعرف كل ابن وأبنة أن الأب هو الأصل الذي قامت عليه الفروع، وهو الجذر الذي غذّى الأوراق، أفلا يستحق أن يكون له في حياتنا قدسية؟!! بلا ورب الكعبة يستحق ذلك. أفلا يليق أن يُكتب له في كل بيت عرفٌ وعهد: “الأب المُتقاعد سيّد مُكرَّم، لا يُهمَّش ولا يُستغنى عنه”؟
فاصلتين أخيرتين:
1- أن تُقرّ الأسرة لوالدهم المتقاعد بقدسيته، وأن تُعلن تكريمها له؛ وأن يجعلوا من تكريم الآباء بعد التقاع سُنّة في بيوتهم، وعُرفاً في المجتمع، وثقافةً تسري في دماء الأُسرة”.
2- طُوبى لمن كرّم والده حيّاً، فإنّ السماء تُكرّمه إذا رحل، وتبارك خطواته
اذا مضى
أ د / الأدهم بن خليفه اللويش
جامعه حائل