مقال بقلم: د. تركي العيار أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود بعنوان (( استنزال الجن ظاهرة تحتاج للدراسة ))

في العديد من المناسبات الشعبية والفولكلورية التي تقام في بعض المجتمعات، سواء داخل المملكة أو خارجها، تتكرر مشاهد غريبة تثير الذهول والدهشة، وتدفع العقل للتساؤل والحيرة. مشاهد لأشخاص يُقال إنهم “استنزلوا الجن” عند سماع قرع الطبول أو ترديد أهازيج معينة أو إنشاد أبيات من الشعر الشعبي، حيث يدخل بعضهم في حالة غير مألوفة من الرقص والحركات غير الطبيعية، يصاحبها تغيّر في ملامح الوجه، ورجفة في الأطراف، واضطراب في العيون، وتشنجات في اللسان، بل ويتجرأ البعض على وضع الجمر الحارق في فمه أو كفيه دون أن يظهر عليه أدنى أثر للحرق أو الألم!
ظواهر مثل هذه تستوقفنا كثيرًا، وتدفعنا للسؤال بصوت مسموع: هل ما نشاهده هو استنزال حقيقي للجن، أم مجرد تمثيل متقن؟ وهل هذه الحالات تندرج ضمن حالات التلبس كما هو شائع في التراث الشعبي والديني، أم أن هناك تفسيرات نفسية واجتماعية وثقافية يمكن أن تضيء لنا هذه الظاهرة الغامضة؟ بداية، لا بد من التأكيد أن الإيمان بوجود الجن جزء لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية، فقد ذكرهم الله تعالى في آيات عديدة، منها قوله:

> “وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون” [الذاريات: 56]

وهم مخلوقات غير مرئية لنا، لهم طبيعتهم وقدراتهم التي تختلف عن البشر، ويعيشون بيننا في عالم موازٍ. لكن الجدال الحقيقي يبدأ عندما يُطرح سؤال: هل يمكن للجن أن يتلبس الإنسان؟
حيث يرى جمهور العلماء أن تلبّس الجني للإنسان وارد وممكن، واستدلوا بآية:

> “الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس” [البقرة: 275]

في حين يذهب بعض العلماء، ومنهم المعتزلة، إلى نفي ذلك، معتبرين أن هذا الاعتقاد يدخل في باب الأوهام والأساطير.
فظاهرة استنزال الجن – حسب ما يُروى – تحدث غالبًا أثناء طقوس شعبية تتضمن الطبول، والترديد الإيقاعي لأهازيج معينة، ما يُحدث تأثيرًا نفسيًا وبدنيًا قويًا على بعض الأفراد، فيدخلون في حالة أشبه بالغيبوبة أو النشوة.
فوفقًا لدراسة نُشرت في مجلة Transcultural Psychiatry، فإن بعض الحالات التي يُعتقد أنها “تلبس” أو “استنزال” يمكن تفسيرها نفسيًا بما يُعرف باضطراب التحول (Conversion Disorder) أو الهستيريا التحويلية، وهو اضطراب نفسي يظهر على هيئة أعراض جسدية غير مفسرة طبيًا.
وفي دراسة أخرى أجرتها جامعة هارفارد (Harvard Divinity School, 2021)، وُجد أن 80% من حالات “اللبس” أو “الاستنزال” في بعض الثقافات يمكن ربطها بحالات ضغط نفسي واجتماعي، أو رغبة في جذب الانتباه، أو محاولة للهروب من واقع مرير.
لكن اللافت للنظر أن هذه الظاهرة تتكرر بنمط معين في أماكن متعددة وبتفاصيل متشابهة، ما يجعل من الصعب اختزالها في كونها تمثيلًا أو خداعًا بصريًا فقط. فهناك فرق بين الأداء الفني المُتقن وبين التصرفات الخارجة عن السيطرة التي تتكرر بتلقائية وواقعية مخيفة.

المظاهر الغريبة.. تحدٍ للتفسير العلمي ، فمن أغرب ما يُلاحظ في حالات “الاستنزال” هو قدرة الشخص على التفاعل الجسدي بما يفوق قدرات البشر الطبيعية:

– حركات جسدية مرهقة تستمر لفترات طويلة دون تعب

– اتزان غير منطقي في الرقص رغم الحركات السريعة والعنيفة

– عدم التأثر بالجمر أو النار الموضوعة على الجسد أو داخل الفم

وهنا نتساءل: هل هذه مجرد ظواهر نفسية جماعية ناتجة عن التنويم الإيحائي الجمعي؟ أم أن هناك “قوة” غير مرئية بالفعل تتلبس الإنسان وتسيطر عليه؟
في التراث الشعبي نجد تفسيرات عديدة للاستنزال، منها أنه نوع من “الاتصال مع عالم الجن”، وغالبًا ما يُنظر له على أنه “كرامة” أو “حالة روحية” عند بعض الطرق الصوفية، بينما يراه البعض نوعًا من “التحضير” أو “الاستدعاء” لأرواح أو كيانات خفية. ففي بعض الثقافات، مثل في زنجبار وموريتانيا والسودان، توجد طقوس تُعرف بـ”الزار”، حيث يُعتقد أن الجن يحضر بناءً على نغمات موسيقية وإيقاع معين. وقد وثقت منظمة الصحة العالمية هذه الطقوس في بعض تقاريرها بوصفها مزيجًا من الطب الشعبي والفولكلور والطقوس الجماعية، مما يفتح بابًا للتفسيرات النفسية والاجتماعية.

هل نحتاج إلى دراسة الظاهرة؟ نعم، وبكل تأكيد. إن ما نشاهده لا يجب أن يُختزل في تفسيرات دينية أو شعبية أو حتى اتهامات بالتمثيل. نحن بحاجة إلى دراسات علمية ميدانية من متخصصين في الطب النفسي، والأنثروبولوجيا، والدراسات الدينية، وعلم الاجتماع، وعلوم الأعصاب، بهدف فك طلاسم هذه الظاهرة، وتقديم تفسير شامل يراعي الأبعاد المتعددة لها. وحتى نصل إلى ذلك، سيبقى الجدل مستمرًا: هل ما نراه هو استنزال حقيقي أم تمثيل احترافي؟ وهل يتلبس الجن فعلاً الإنسان، أم أن عقولنا تسرد علينا قصصًا من صنع خيالنا الجمعي؟
في الختام، اقول بأن ظاهرة استنزال الجن تفتح أبوابًا كثيرة للنقاش، وتعكس تداخل الدين، والموروث، والنفس، والمجتمع في تفسير ما لا يمكننا حتى الآن فهمه بدقة. وإذا كانت العقيدة الإسلامية تؤمن بوجود الجن، فإن التفاصيل المرتبطة بتلبسهم للإنسان أو استنزالهم تحتاج لمزيد من الفحص العلمي، بعيدًا عن الإنكار المطلق أو التصديق المطلق. إنها ظاهرة تستحق أن تُدرس بجدية، بعيدًا عن الاستهزاء أو التهويل، حتى نميّز بين الحقيقة والأسطورة، بين الخرافة والعلم.

زر الذهاب إلى الأعلى