صالحه آل بيهان القحطاني
زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن لم تكن حدثًا سياسيًا تقليديًا، ولا مجرد محطة دبلوماسية عابرة في علاقاتٍ امتدت لعقود.
لقد كانت زيارة تصنع معنى جديدًا للقوة السعودية وتكشف حجم التحوّل الذي تشهده المملكة بقيادته.
زيارة حملت رسائل واضحة: السعودية اليوم ليست دولة تبحث عن موقع، بل دولة تُحدّد شكل موقعها وتأثيرها في العالم.
واشنطن هذه المرّة لم تستقبل وفدًا رسميًا فحسب، بل استقبلت رؤية كاملة، رؤية تنظر إلى الاقتصاد بوصفه سلاحًا للمستقبل، وإلى السياسة بوصفها فنّ صياغة التوازنات لا انتظارها.
فالسعودية دخلت البيت الأبيض بصفتها شريكًا، لا تابعًا؛ قائداً يمتلك مشروعًا، لا دولة تُراجع مواقف الآخرين.
الأهمية الحقيقية للزيارة أنها كشفت أن التحالف السعودي–الأمريكي لم يعد علاقة أحادية الاتجاه.
بل بات تحالفًا نِدّيًا، يقوم على مصالح واضحة، وعلى دور سعودي أصبح أكثر تأثيرًا في ملفات الطاقة، وفي أمن الملاحة، وفي استقرار الأسواق العالمية، وفي صياغة التوازن الإقليمي.
السعودية اليوم تمسك بأحد أهم مفاتيح عصرنا: استقرار الطاقة والتحول نحو مصادرها الجديدة، ولذلك فإن صوتها لم يعد رأيًا، بل ضرورة دولية.
الاقتصاد كان أقوى أوراق هذه الزيارة.
فالاستثمارات الضخمة واتفاقيات الـ270 مليار دولار ليست مجرّد أرقام، بل خارطة طريق تُعيد ربط المصالح الأمريكية بعمق الاقتصاد السعودي، وتمنح المملكة وزنًا سياسيًا أكبر في النظام العالمي.
إنها رسالة للعالم بأن السعودية لا تنتظر المستقبل… بل تبنيه، وتربط الآخرين به.
وفي خطوة سياسية جريئة، جاء طلب ولي العهد برفع العقوبات عن السودان كدليل آخر على أن المملكة تتعامل مع المنطقة كقائد مسؤول، لا كطرف مراقب.
هذه ليست لفتة دبلوماسية، بل قرار استراتيجي يهدف إلى حماية البحر الأحمر، ودعم استقرار القرن الإفريقي، وصناعة بيئة إقليمية أكثر توازنًا ونفوذًا سعوديًا.
ورغم كل الانشغالات الاقتصادية والسياسية، بقيت القضية الفلسطينية في قلب الخطاب السعودي.
ثبات المملكة على موقفها من الحقوق الفلسطينية هو دليل على أن السعودية تُجدد أدواتها في السياسة، لكنها لا تُبدل مبادئها، وأن القوة لا تعني التخلّي عن الثوابت.
أما اجتماعات التقنية والفضاء، فقد جسدت ملامح السعودية الجديدة.
السعودية التي تبني مدنًا ذكية، وتستثمر في الذكاء الاصطناعي، وتقترب من الفضاء، ليست السعودية القديمة.
إنها دولة تتجاوز فكرة “الاقتصاد التقليدي” إلى دولة تصنع المعرفة وتشارك في تصميم مستقبل البشرية.
هذه الزيارة، بكل ما حملته من رسائل وصور ولقاءات، تؤكد حقيقة واحدة:
السعودية اليوم دولة تقود ولا تُقاد، تصنع مبادراتها ولا تنتظر مبادرات الآخرين، وتجلس على الطاولة ليس للمتابعة، بل لصياغة القرارات.
إنها زيارة تُعلن دخول المملكة إلى مرحلة جديدة من النفوذ السياسي والاقتصادي والتقني، مرحلة يتقدّم فيها صوت الرياض بثقة، ويُستمع إليه باهتمام، ويُحسب له كل الحسابات.
السعودية الجديدة ليست وصفًا إعلاميًا…
إنها واقع يتشكل.
وزيارة واشنطن كانت إحدى أقوى لحظات هذا التشكّل، لحظة قالت فيها المملكة للعالم:
نحن هنا… نصنع مستقبلنا، ونشارك في رسم مستقبل العالم .




