الحكم… سيد الملعب بين الأمس واليوم

منذ أن تعلّقنا بكرة القدم وشغف تفاصيلها، رافقتنا تلك العبارة التي يرددها المعلقون والمحللون: “الحكم سيد الملعب”.

لم تكن مجرد جملة لوصف مهمة، بل كانت فلسفة كاملة تلخّص روح اللعبة في زمنٍ كان فيه القرار التحكيمي نهائياً لا يُناقش، والصافرة تحسم النتائج دون وسيط أو مراجعة.
كانت المباريات تُلعب حينها في مسرح واحد: عشب الملعب، اللاعبون، والجمهور.
وحدها المواجهات الكبرى تحظى بالنقل التلفزيوني، أما بقية المباريات فتُطوى تفاصيلها داخل حدود المدرجات.
في تلك الفترة كان الحكم هو العين التي ترى كل شيء، والصوت الذي يميّز بين الخطأ والصواب.
يخطئ أو يصيب… ومع ذلك يتقبل الجميع، ليس لأن القرار دائماً عادل، بل لأن الخطأ كان جزءاً من قَدر اللعبة وسحرها.
ومع تطور البث التلفزيوني وظهور تقنية الفيديو المساعد (VAR)، تغيّر المشهد كلياً.
جاءت التقنية تحت شعار “تعزيز العدالة”، لكنها فتحت الباب لجدل جديد ، أصبح كل قرار مرصوداً بكاميرا، وكل لقطة قابلة للمراجعة، ومع ذلك بقي الخطأ موجوداً، وربما بات أكثر تعقيداً، خاصة مع حضور الحكم الأجنبي وتكلفته العالية، إضافة إلى حكام الـVAR وما تتحمله الأندية من أعباء مالية.
فالحكم ، مهما امتلك من أدوات وتقنيات ، يبقى إنساناً يواجه ضغطاً هائلاً وسط سرعة الإيقاع، وانفعالات اللاعبين، وصخب الجماهير. لقطات يد تفلت، تدخلات خشنة تمرّ دون ملاحظة، وأهداف مثيرة للشك… أخطاء تستمر رغم كل ما توفره التقنية.
ومع الـVAR تغيّر شكل الخطأ، لكنه لم يختفِ؛ فالكثير من القرارات بعد المراجعة أصبحت مثار جدل أكبر مما كانت عليه قبلها، إضافة إلى التوقفات الطويلة التي تفقد المباراة هيبتها وإيقاعها.
وتزداد الإشكالية في المباريات التي تُقام دون تقنية VAR، حيث يفتقد الحكم أي وسيلة تواصل فعّال مع مساعديه، مكتفياً بالإشارات التقليدية.
في ظل غياب أجهزة الاتصال يصبح الحكم وحيداً في مواجهة قرارات حساسة، ما يوسع هامش الخطأ ويضعف جودة الحكم بشكل واضح.
وتتسع الفجوة أكثر حين ندرك أن التقنية ليست متاحة للجميع؛ فهناك دوريات تعمل بالـVAR وأخرى بلا تقنية، خاصة في الفئات السنية، وهي قاعدة المستقبل.
فريق يخسر بسبب خطأ في بطولة بلا تقنية، وآخر يُنصف في بطولة أخرى… فينشأ خللٌ يضرب عدالة المنافسة ويؤثر على النتائج والمراكز.
ولا تتوقف آثار الأخطاء عند صافرة النهاية؛ بل تمتد إلى المدرجات وغرف الملابس ومجالس الإدارات. يتصاعد التعصب، وتتضرر الأندية رياضياً ومالياً، وقد يضيع موسمٌ كامل بقرار واحد.
لذلك تبدو الحاجة اليوم ماسّة لإعادة بناء منظومة التحكيم.
ليس من أجل الأندية فحسب، بل لحماية روح اللعبة نفسها. نحن لا نبحث عن حكم معصوم من الخطأ، بل نريد حكماً شجاعاً، نزيهاً، ثابتاً في قراراته، بعيداً عن أي تأثير أو انتماء. حكماً يبقى سيداً للملعب… لا بفضل التقنية، بل بفضل شخصيته وخبرته وجرأته.
كما نطمح لعدالة شاملة؛ تقنية تصل لكل الدرجات والفئات، حتى لا تبقى العدالة امتيازاً للكبار وحدهم. وأن يتوفر الحد الأدنى من وسائل التواصل بين حكم الساحة والمساعدين، حتى لا يواجه الحكم مصيراً وحده في لقطات قد تغيّر مسار موسم كامل.
لن تنهض كرة القدم إلا حين يشعر الجميع بأن الميدان متساوٍ، وأن القانون لا يتبدل بتبدّل الأسماء والألوان. وحينها فقط… يستعيد الحكم مكانته الحقيقية كسيدٍ للملعب، وتستعيد اللعبة نقاءها الأول. والله الموفق.

زر الذهاب إلى الأعلى