الكِير هو جهاز منفاخ يستخدمه الحدّاد وغيره للنفخ في النار لإشعالها أو إذكائها، أما الكتابة هي وسيلة الإنسان للتعبير، للتنفيس، وللإصلاح. حين نكتب نبوح بما يختلج في صدورنا، ونأمل أن تصل كلماتنا إلى من يملك القدرة على التغيير.
الكاتب ابن مجتمعه، يتغذّى من قضاياه، ويعبّر عن آماله وآلامه، فهو سجل حيّ لما يشغل الناس، ومرآة تعكس تحوّلاتهم وهمومهم اليومية. فهو الوعاء الذي يحتضن قلق الجماعة، والمحرّك الذي يدوّن صراعاتها وأسئلتها.
لكن هل يمكن للكلمات أن تنفث النار على كاتبها؟!
دعونا نلج إلى دهاليز الكتابة المعتمة لنكشف الستار عن الحقيقة التي لا تُروى عن الكتابة، وعن الثمن الباهظ الذي قد يرافقها.
الكاتب لا يعيش في فراغ، بل في مجتمع له حساسياته، وتوازناته، ومصالحه. حين يكتب، فهو يهز تلك التوازنات، ويكشف المستور، ويسلط الضوء على مناطق الظل. وهذا الفعل، رغم نبله، قد يُنظر إليه كتهديد، لا كإصلاح.
النية الطيبة لا تحمي الكاتب دائمًا من العواقب. فقد تُفهم كلماته على غير وجهها، أو تُفسر في سياقات عدائية، أو تُقتطع لتخدم أجندات لا تمت بصلة إلى ما أراد. وقد يثير حديثه عن الفساد أو الظلم أو الجهل حفيظة من يستفيدون من تلك الأوضاع، فيبدأون بالكيد له، وتشويه سمعته، وربما محاربته في رزقه ومكانته، ويجد نفسه محاطا بالعداوات والبغضاء ، رغم أن نيته كانت الخير والإصلاح. فهل يمكن أن تتحول الكتابة، التي هي في جوهرها فعل نبيل، إلى سبب في هلاك صاحبها؟
عبد الله بن المقفع, الأديب المخضرم الذي ذاع صيته في الآفاق لسعة علمه وأناقة أدبه وجمال روحه.. قتله كتابه (رسالة الصحابة) تم استدعاءه إلى العاصمة بغداد, حيث تم قطع يده اليمنى وشيها على النار وأرغم أن يأكل منها قبل أن يقتل!!
ومن بغداد إلى القاهرة وبعد قرون، الكاتب والمفكر المصري، فرج فودة تم اغتياله بسبب كتاباته و آرائه، وغيرهم كثيرون.
الكتابة رائعة ومريعة، أنا المبتدئة التي لا تملك الكثير من مهارات الكتابة أو الدراسات المتخصصة، لكنني أملك شغفًا جامحًا، ومحبةً عميقة لهذا الفن، ورغبةً صادقة في أن أترك أثرًا نافعًا وخالدًا. استيقظت ذات صباح على إشعارات من منصة X، وجدت تغريدات تُدرج حسابي مع عبارة (حسبنا الله ونعم الوكيل، بلكوها كلكم)، دون أي توضيح، ومن حسابين مختلفين. بدا الأمر ساخرًا في ظاهره، لكنه لم يكن بلا سبب. ربما كتبت شيئًا أوجع أحدهم دون قصد، رغم حرصي الدائم على أن يكون نقدي ناعمًا، هادفًا، لا قاسيًا ولا مستفزًا. فالغاية من النقد هي الإصلاح، لا التشهير. فتذكرت مقولة (إذا ضربت فأوجع فإن الملامة واحدة)!
إذن الجواب نعم، يمكن أن يكون الإنسان ضحية لما خطت يداه، لا لأن كلماته كانت خاطئة، بل لأن العالم من حوله لم يكن مستعدًا لسماع الحقيقة. ومع كل ذلك، تبقى الكتابة ضرورة، وشجاعة، ورسالة. فليكتب الإنسان، ولكن بوعي، وبحكمة، وبإدراك أن للكلمة ثمنًا، وأن الصدق لا يُعفي من الأذى، فالكتابة عالمٌ ساحر، لكنه لا يخلو من الأشواك.
انطلق يا صاحب الرسالة وسِرْ في درب الكلمة بإيمانٍ برسالتك، دع قلمك يرقص على إيقاعك الخاص، لا على ألحان عزفها غيرك. امتلك الجرأة في أن تكون أنت، فربّ كلمة تُصلِح ما أفسده الدهر.
لا تتردد اكتب. الكتابة رحلة مستمرة، استمر في رحلتك. فثمّة من ينتظر كلماتك، من يحتاج إلى سماع صوتك، من قد تتغيّر حياته لأنك قررت أن تكتب.
