1=
*حين وجدت السفينةُ منارتَها*
.
مساء الأمس، كان من تلك الأماسي الخالدة التي لن أنساها وابنتي؛ وتعجزُ الكلماتُ حقًّا، وتتوارى خجلًا، حين أحاولُ أن أصفَ مشهدًا تمازجتْ فيه مشاعرُ الفخرِ بابنتي الموهوبةِ جمانة، مع الامتنانِ العميقِ لشخصيَّةٍ بحجمِ وقامةِ معالي الوزير الأديب، الدكتور عبد العزيز خوجة.
.
أرادتْ جمانة إهداءَ معاليه لوحةً من لوحاتِها، وقد قرأتُ إشادته ببعضِ أعمالها، لذلك كانت الزيارةُ التي لم تكنْ مجرَّد لقاءٍ عابرٍ؛ بل كانتْ رحلةً إلى أعماقِ الحكمةِ وفيوضاتِ الأبوَّةِ الصادقةِ وخبراتِ السِّنين وسلافةِ التجاربِ، وكانتْ نهلًا من معينِ الأدبِ والخُلُقِ، ولحظةً تعانقتْ فيها موهبةٌ شابَّةٌ واعدةٌ مع خبرةٍ أبويَّةٍ راسخةٍ.
.
*الموهبةُ إن أنصتتْ للحكمةِ اشتعلَ الطريقُ؛ واللحظةُ التي تجلِّلها القِيَمُ لا تُرمَّدُ.*
.
في رحابِ داره العامرةِ، استقبلَنا معاليه بتواضعهِ الجمِّ الذي لا يُتقنه إلا العظماءُ؛ فرغم تأخُّرنا عليه بسببِ الزِّحامِ، وضيقِ وقته وقد أتى من مناسبةٍ، إلَّا أنَّه سربلَ الابنةَ جمانة بروحٍ أبويَّةٍ دافئةٍ أحاطتْها بالرِّعايةِ والتشجيعِ.
.
كان المشهدُ بحدِّ ذاتهِ لوحةً فنِّيَّةً حيَّةً، بطلُها وزيرٌ عملاقٌ، وسفيرٌ أمينٌ، وأديبٌ كبيرٌ حوَّل اللقاءَ إلى لحظةٍ فارقةٍ في مسيرةِ فنَّانةٍ صغيرةٍ أتوقُ أن أراها تملأُ الدُّنيا إبداعًا.
.
*لا يقيسُ السَّيِّدُ وقتَه بالدقائقِ، بل بلحظاتِ الإلهامِ التي يمنحُها لمن هم في بدايةِ الطريقِ*.
.
استهلَّ معاليه حديثه بإعجابٍ صادقٍ وهو يتأمَّلُ لوحةَ جمانة، واصفًا ذلك اليومَ بالسَّعيدِ الذي كشفَ له عن موهبةٍ استثنائيَّةٍ، ومتنبِّئًا لها بمستقبلٍ باهرٍ كفنَّانةٍ عالميَّةٍ. كان متفاجئًا من السَّفينةِ، وسعيدًا باللوحةِ، وقال إنَّ ثمَّة مصادفةً بديعةً؛ إذْ ذكرَ أنَّه للتوِّ قد عاد من زيارةِ سفينةٍ عُمانيَّةٍ رستْ في جدَّة، ليجدَ تشابهًا عجيبًا بينها وبين هذه السَّفينةِ التي رسمتْها جمانة، وكأنَّ ريشَتَها قد استلهمت المشهدَ عن بُعدٍ، في لقطةٍ تنمُّ عن تجاذبِ الأرواحِ المبدعةِ.
.
*ما بدا مصادفةً كان توقيعًا غير مرئيٍّ بين موهبةٍ ومشهدٍ؛ يُؤكِّد أنَّ الحَدْسَ أبكرُ من الخبرِ.*
.
أُؤمن من تجاربي في الحياةِ أنَّ الموهبةَ بلا منهجٍ شرارةٌ، والمنهجَ بلا موهبةٍ رمادٌ؛ لذلك هرعتُ بابنتي إلى علمٍ متينٍ، ورجلٍ عركتْه الحياةُ لتسترشدَ. وبكرمِ الحكماءِ، أهدى جمانة عصارةَ خبرته في نصائحَ ذهبيَّةٍ، تمثَّلتْ في:
.
صقل الموهبة: حيث أكَّد أنَّ الموهبةَ الفطريَّةَ تظلُّ كالألماسةِ الخامِ، لا يكتملُ بريقُها إلَّا بالصَّقلِ العلميِّ والدِّراسةِ الأكاديميَّةِ.
.
استكشاف المدارس الفنيَّة: حثَّها على الغوصِ في بحارِ الفنِّ، والتعلُّمِ من كبارِ الأساتذةِ، واستكشافِ المدارسِ المختلفةِ، من كلاسيكيَّةٍ، وتشكيليَّةٍ، وسرياليَّةٍ، لتجدَ هويَّتَها الفنيَّةَ التي تلامسُ روحَها.
.
اتِّحاد الموهبة بالمعرفة: وضربَ مثلًا بالشَّاعرِ الذي لا يكتملُ إبداعُه دونَ التمكُّنِ من أدواتِ اللغةِ؛ وكذلك الفنَّانُ، لا بُدَّ أن تتَّحدَ موهبتُه مع معرفتهِ العميقةِ.
.
*حقًّا: الموهبةُ تَمنحك الصَّخرَ، لكنَّ المعرفةَ وحدَها هي التي تَمنحك المطرقةَ والإزميلَ لنحتِ التِّمثالِ.*
.
يا لها من لحظاتٍ كنتُ أراقبُ فيها ابنتي، وعينايَ تفيضانِ فخرًا!
كنتُ أرى كلماتِ معاليه وهي تسقطُ على روحِ جمانة كقطراتِ النَّدى، فتُضيءُ في عينيها بريقَ الطُّموحِ، وتسكبُ في قلبِها وقودًا لا ينضبُ من الأملِ. لقد أهدتْه جمانة لوحةً صامتةً، فردَّ لها الهديَّةَ بمنارةٍ من حكمةٍ ونورٍ، لتُرشدَ سفينتَها الفنيَّةَ في بحارِ المستقبلِ المتلاطمةِ.
.
كنتُ أتمتمُ وأنا أستمعُ لنصائحِ معاليه: *ابنتي أهدتْه لوحةً صامتةً، بيدَ أنَّه ردَّ الهديَّةَ بحِكَمٍ باتتْ فنارًا يهدي سفينةَ ابنتي في كلِّ عواصفِ الحياةِ*.
.
معالي الدكتور عبد العزيز خوجة أبٌ للجميعِ، ومدرسةٌ في الأخلاقِ، ومنهلٌ للحكمةِ لا ينضبُ. لقاؤُه يُثري الرُّوحَ، وحديثُه يُنعشُ الفكرَ، وتواضعُه يتركُ في النَّفسِ أثرًا لا يُمحَى.
.
*يا سادة: المناصبُ تسكنُها أجسادٌ راحلةٌ، أمَّا القلوبُ فلا يسكنُها إلَّا أصحابُ الأثرِ الخالدِ*.
2=
*منارةُ الوزير… وشراعُ جمانة*
.
واللهِ لا أدري كيف أصفُ هذا الكرمَ الذي غمرَنا، وتلك الحكمةَ التي تدفَّقت كجدولٍ هادئٍ صافٍ. لم يكنْ معالي الدكتور عبد العزيز خوجة مجرَّد مضيفٍ، بل كان أبًا كبيرًا فتحَ لنا أبوابَ داره وقلبه، وسكبَ في أرواحِنا شيئًا من نورهِ وتجاربهِ.
.
*ما يَسكُبه الكبارُ في أرواحِنا لا يجفُّ، وحِكَمُهم أنهارٌ هادئةٌ تُغيِّرُ مجرى العُمرِ*.
.
ويتعاظمُ المشهدُ في عيني جلالًا وجمالًا، حين أراهُ، وهو القامةُ والتَّاريخُ، ينحني بكلِّ تواضعٍ ليَخُطَّ بيدِه شهادةَ ميلادٍ أولى في مسيرةِ جمانة الإبداعيَّةِ. لم تكنْ تلك مجرَّد كلماتٍ عابرةٍ، بل كانتْ وشمًا في ذاكرةِ فنَّانةٍ، ووسامًا يُعلَّق على صدرِ موهبتِها، وتعويذةَ نجاحٍ ستظلُّ تهمسُ في أذنِها كلَّما أمسكتْ بريشتِها. لقد حوَّل تلك الصَّفحةَ البيضاءَ إلى منارةٍ أقرأُ فيها ما فاضَ به قلمه الأنيقُ:
.
بسم الله الرحمن الرحيم
*لقد سُعدْتُ مساءَ هذا اليومِ السبت الموافق ١١ أكتوبر ٢٠٢٥ بلقاءِ الرسَّامة المبدعة جمانة عبد العزيز قاسم. ولقد سَعدْتُ سعادةً كبيرةً وابتهجْتُ بما رأيتُ في لوحةِ السفينةِ من عُمقٍ إبداعيٍّ رائعٍ يبشِّرُ بميلادِ رسَّامةٍ فنَّانةٍ مبدعةٍ كبيرةٍ بعونِ الله تعالى. وأسألُ الله لكِ يا جمانة أنْ يوفِّقَكِ في كلِّ خطواتِكِ وأيامكِ المقبلةِ في كلِّ ما تحبِّين وما تطمحينَ إليه في ظلِّ والديكِ وأسرتِكِ ووطنِكِ.*
.
*عبد العزيز محيي الدين خوجة*
.
يا لله! حَدْسُ الكبارِ يُوقِّتُ ساعةَ الموهبةِ قبل أن تدقَّ.
.
ثمَّ ينسابُ الحديثُ الشَّيِّقُ، لينتقلَ بنا من عوالمِ الفنِّ إلى رحابةِ الحياةِ، ومن سحرِ الرِّيشةِ إلى فنِّ صناعةِ الرِّجالِ. لقد قصَّ علينا معاليهِ حكايةً بليغةً من طفولتهِ، حين واجهَ الخوفَ، فصنعتْ منه حكمةُ والدتهِ -رحمها الله- رجلًا لا يهربُ، بل يواجهُ.
.
كانتْ تلك القصَّةُ درسًا عميقًا لي كأبٍ، ورسالةً خالدةً بأنَّ بناءَ الشَّخصيَّةِ لا يكونُ بالدَّلالِ، بل بغرسِ الشَّجاعةِ في القلوبِ الصَّغيرةِ لتكبرَ معها. كانت القصَّةُ همسةً في أذنِ كلِّ أبٍ، تُذكِّرُنا بأنَّ أعظمَ ما نزرعُه في أبنائِنا ليس المالَ، بل القوَّةَ لمواجهةِ المحنِ.
.
*كان الدَّرسُ: لا تَبْنِ لأبنائِكَ حصونًا تحميهم من الحياةِ، بل علِّمْهم كيف يصنعونَ سيوفَهم ليخوضوها*.
.
وشكرَ لي معاليه ما أقومُ به تجاه والدتي، وقد تأثَّر جدًّا من قراءةِ مقالتي الأخيرة التي كانتْ بعنوان: “عندما بكتْ والدتي يوم أمسِ”، ليُحدِّثَنا بعدها على أنَّ أصلَ كلِّ توفيقٍ هو “برُّ الوالدين”، وكان يتحدَّثُ من قلبٍ يعرفُ حقًّا معنى البرِّ، مؤكِّدًا أنَّ دعوةَ أمٍّ راضيةٍ، ونظرةَ أبٍ فخورٍ، هي الوقودُ الحقيقيُّ الذي يُسيِّرُ سفينةَ الحياةِ نحو شواطئِ النَّجاحِ.
.
رسالةُ معاليه لابنتي كانتْ: *كلُّ أبوابِ التَّوفيقِ في الحياةِ لها مفتاحٌ واحدٌ، يُصنَعُ من رضا الأمِّ وفخرِ الأبِ*.
.
وبين ثنايا حديثهِ الأبويِّ، كان يلتفتُ إليَّ بنظراتٍ تحملُ الكثيرَ من التَّقديرِ، ويرى في اهتمامي بابنتي نموذجًا للأبوَّةِ الحريصةِ. لقد شعرتُ بفخرٍ لا يوصفُ. كان مجلسًا لا يُقدَّرُ بثمنٍ؛ درسًا في التَّواضعِ، ودرسًا في التَّربيةِ، ودرسًا في الحياةِ. خرجْنا من داره ونحن نحملُ معنا كنزًا من الذِّكرياتِ والنَّصائحِ التي ستظلُّ تُضيءُ لنا الدَّربَ.
.
*إنَّ الحكمةَ الحقيقيَّةَ لا تُلقَّنُ في الفصولِ، بل تُستلهمُ في مجالسِ العظماءِ.*
3-3
*مديحُ الكبارِ: دعوةٌ لما نستطيعُ أن نكونَه*
.
في لحظةٍ فاضَ فيها الوفاءُ كإناءٍ امتلأَ حتَّى حافَّته، لم يكتفِ معاليه بكرمهِ الذي أغدقه على جمانة، بل التفتَ إليَّ بمودَّةٍ دافئةٍ وقال لها وهو يشيرُ نحوي: *«أنا أخو والدِكِ»*. كلمةٌ واحدةٌ، لكنَّها حملتْ عُمرًا من التَّقديرِ، كخاتمٍ يلمعُ في إِصبعِ الحكايةِ.
.
*إنَّ كلمةً من فمِ قامةٍ قد تزنُ في ميزانِ الرُّوحِ ما لا تزنه مكتبةٌ كاملةٌ من المديحِ.*
.
ثمَّ ينسابُ من فمهِ ثناءٌ عذبٌ، ما هو إلَّا انعكاسٌ لروحهِ الكبيرةِ، وأدبهِ الجمِّ، ونُبلِ أخلاقهِ؛ فلقد استسمنَ ذا ورمٍ -واللهِ- حينَ غمرَني بكلماتٍ أنا أقلُّ منها بكثيرٍ، فقالَ ما نصُّه: «*أنا أفتخرُ أنِّي أعرفُ والدَكِ… رجلٌ عظيمٌ، وكاتبٌ كبيرٌ، وإعلاميٌّ، ولي معهُ مواقفُ كثيرةٌ مشرِّفةٌ… رجلٌ مفكِّرٌ، ووفيٌّ، وأديبٌ، أنا أتشَرَّفُ به*».
.
بالتَّأكيدِ أنَّ الكلماتِ أكبرُ منِّي، لكنْ، للوفاءِ عادةٌ أن يُكبِّرَ أصحابَه؛ وقد عهدتُه وفيًّا، بل سندًا يومَ تحتاجُه، وكان ظهرًا لي حين عبستِ الأيامُ وادلهمَّتْ ذاتَ محنةٍ، فحفظتُ له هذا الجميلَ، وأودعتُه في خزانةِ العُمرِ.
.
*مديحُ النُّبلاءِ لا يصفُكَ كما أنتَ، بل هو دعوةٌ كريمةٌ لتكونَ ما يرَوْنَه من إمكانٍ فيكَ.*
.
ثمَّ عادَ المشهدُ يُختتمُ بلمسةٍ أبويَّةٍ حانيةٍ؛ تناولَ اللوحةَ مرَّةً أخرى، وقرأَ بصوتهِ الدَّافئ ما خطَّته جمانة على ظهرِها، كمن يختمُ الهديَّةَ بختمٍ من نورٍ:
.
*إلى الأبِ معالي الدكتور عبد العزيز خوجة*
*من ابنتِكِ جمانةَ قاسمٍ*
To dear Abdulaziz Khojah
From Jomana
.
كانتْ قراءتُه أشبهَ ببركةٍ تُسكبُ على الموهبةِ وصاحبتِها؛ ضوءٌ يُزاد على ضوءٍ، وتصديقٌ سماويٌّ يُشرعِنُ الفرحَ. شعرتُ كأبٍ بفخرٍ لا تحتملُه لغةٌ، كأنَّ القلبَ صارَ منارةً والسَّعادةُ سفينةً ترسو على مرفئِها.
.
*رحلةُ الهديَّةِ لا تنتهي حينَ تُعطَى، بل حينَ تُستقبلُ بطريقةٍ تُعظِّمُ من روحِها، وتسكبُ عليها البركةَ.*
.
هكذا اكتملتْ فصولُ اللقاءِ: بدأَ بتكريمِ الفنِّ، ومرَّ بدروسِ التَّربيةِ والحياةِ، واختُتمَ بتبادلٍ نبيلٍ لشهاداتِ التَّقديرِ والوفاءِ. وبقيَ في النَّفسِ يقينٌ ناصعٌ: أنَّ العظمةَ الحقيقيَّةَ تسكنُ تواضعًا يرفعُ أصحابَه، وأنَّ اليدَ التي تضعُ التَّاجَ على رأسِ الموهبةِ هي نفسُها التي تسندُ القلبَ ساعةَ العاصفةِ
*يبني الرِّجالُ أمجادَهم بطريقتينِ بأحجارٍ تتفتَّتُ مع الزَّمنِ، أو بأرواحٍ تُزهرُ إلى الأبد*.
عبدالعزيز قاسم ، اعلامي وكاتب صحفي