مقال بقلم الكاتبة / فاطمة الجباري بعنوان (( حين يهمس القلب بالحقيقة: لماذا لا يخطئ الانطباع الأوّل غالبًا؟ ))

في اللحظة الأولى للقاء، يحدث ما يشبه الهمس الخفي داخلنا؛ إحساس لا نراه ولا نلمسه، لكنه يترك أثره واضحًا في النفس. هو ذاك الانطباع الأوّل الذي يتكوّن بصمت، قبل أن تتبادل الألسن الكلمات، وقبل أن تُمنح المواقف فرصة الكشف عن حقيقتها. قد نحاول تجاهله بحجة التروّي أو حسن الظن، لكن التجربة كثيرًا ما تثبت أن القلب لا يخطئ بسهولة.

الانطباع الأوّل ليس حكمًا عشوائيًا، بل قراءة فطرية دقيقة لملامح لا تُقال: نظرة عين، نبرة صوت، طريقة حضور، أو حتى صمت يشي بما خلفه. كأن الأرواح تملك قدرة خفية على التعرّف، تلتقط الإشارات الأولى وتختزنها في الذاكرة، لتعود الأيام وتؤكدها.

تحكي إحدى المعلمات عن تجربتها في أول يوم لها بمدرسة جديدة، حين لفت انتباهها سلوك زميلة بدت شديدة الهدوء، قليلة الحديث، تتحرك بخطى محسوبة وكأنها تخفي خلف صمتها شيئًا غامضًا. تقول:
لم أشعر بالارتياح منذ اللحظة الأولى، لكنني وبّخت نفسي، وقلت إن الانطباع الأوّل قد يكون ظالمًا، ومنحتها فرصة كاملة.

مرت الأيام، وبدأ الاحتكاك العملي يكشف الوجوه خلف الأقنعة. اتضح أن تلك الزميلة كانت بارعة في نقل الكلام وتحريفه، تصنع الخلافات في الخفاء، بينما تحافظ على مظهر اللطف والبراءة أمام الجميع. عندها فقط عادت الذاكرة إلى ذلك الإحساس الأول، وقالت المعلمة بأسف: ليتني وثقت بقلبي منذ البداية.

لم يكن الانطباع الأوّل ظلمًا، بل رسالة مبكرة لم تُفهم إلا بعد أن دفعت ثمن تجاهلها.

ورغم ذلك، لا يمكن اعتبار الانطباع الأوّل حكمًا نهائيًا أو إدانة مسبقة، فالعقل شريك لا يُستغنى عنه. الحكمة تكمن في الموازنة؛ أن نُصغي لصوت الداخل، دون أن نغلق باب التروّي والتجربة. فالإنسان قد يخطئ، لكن القلب حين يحذّر، غالبًا ما يفعل ذلك بدافع الحماية لا الوهم.

لقد علّمتنا التجارب أن بعض الإحساسات الأولى ليست عبثًا، وأن الزمن كثيرًا ما يعود ليمنحها الشرعية. فليست كل المشاعر العابرة خداعًا، وليست كل الأحكام السريعة ظلمًا.

«ليس كلّ ما نُدركه في اللحظة الأولى وهمًا، فبعض القلوب ترى الحقيقة قبل أن تتكلم العقول، وتكشفها الأيام لاحقًا.»

هكذا يبقى الانطباع الأوّل بوصلة داخلية، إن أحسنّا فهمها، جنّبتنا الكثير من الخيبات، ووفّرت علينا دروسًا قاسية. ثق بقلبك… ولا تُلغِ عقلك، فبينهما تولد الحقيقة.

زر الذهاب إلى الأعلى