لم يعد الاستثمار الاجتماعي مجرد توصيف حديث لعمل المؤسسات المانحة، بل أصبح أحد أكثر أنماط التمويل حساسية وتعقيدًا ضمن منظومة إدارة المنح، فهو لا يُدار بعقلية الصرف، ولا يُبنى على منطق الاستجابة الآنية، بل يقوم على مقاربة رأسمالية ترى في المال أداة لإنتاج قيمة اجتماعية مستدامة، لا تكلفة تُغلق بانتهاء السنة المالية، ومن هنا، فإن التحول نحو الاستثمار الاجتماعي ليس تغييرًا في المسميات، بل إعادة هندسة جذرية لطريقة اتخاذ القرار التمويلي داخل سياسات المنح،
وانطلاقًا من هذا الفهم، يقوم الاستثمار الاجتماعي على التعامل مع المنحة بوصفها رأس مال تنموي يخضع للتحليل، والتقييم، وإدارة المخاطر، وهي عناصر أصبحت جوهرية في الممارسة الحديثة لإدارة المنح، لذلك، لا يبدأ القرار من السؤال التقليدي هل المشروع نبيل، بل من أسئلة أكثر صرامة ترتبط بجدوى التدخل، واستدامته، وقدرته على الاستمرار، مثل هل النموذج قابل للاستمرار، هل التدفقات المالية مفهومة، هل الجهة المنفذة قادرة على الإدارة والانضباط، وهل يمكن تعظيم القيمة الاجتماعية للعائد عبر الزمن، وفي هذا السياق، تتقدم الجدوى الاجتماعية ونموذج العمل وبنية الحوكمة على الحماس الخطابي أو وجاهة الفكرة،
وفي هذا الإطار، تُظهر التجربة السعودية انتقالًا تدريجيًا لدى بعض المؤسسات المانحة من نماذج المنح التقليدية إلى بناء محافظ استثمار اجتماعي أكثر تنوعًا، تجمع بين المنح المشروطة، والتمويل المرحلي، والدعم القابل للاسترداد، وهو توجه يعكس تطورًا في أدوات إدارة المنح، وليس خروجًا عنها، إذ يهدف إلى تقليل المخاطر، ورفع كفاءة استخدام الموارد، وربط التمويل بنتائج قابلة للاستمرار، بدل الاكتفاء بتنفيذ النشاط،
ومع اتساع هذا التوجه، تُظهر الممارسة أن أحد أكبر التحديات في الاستثمار الاجتماعي لا يكمن في نقص المشاريع، بل في فجوة الجاهزية المؤسسية لدى الجهات المتقدمة للمنح، فكثير من المبادرات تحمل أهدافًا اجتماعية مهمة، لكنها لا تزال تُدار بعقلية المشروع قصير المدى، دون جاهزية مؤسسية كافية تُمكّنها من التعامل مع التمويل بوصفه استثمارًا طويل الأجل، وهنا يصبح دور المؤسسة المانحة أكثر تعقيدًا ضمن دورة المنحة، إذ لا تقتصر مهمتها على التمويل، بل تمتد إلى التقييم، وإعادة التوجيه، وأحيانًا التوقف، حمايةً لرأس المال الاجتماعي وتحقيقًا لمسؤوليتها تجاه كفاءة المنح،
ومن هذا المنطلق، يفرض الاستثمار الاجتماعي على المانح تبني منطق مختلف في علاقته مع الجهة المنفذة، يقوم على وضوح التوقعات، والالتزامات التعاقدية، وتشارك المخاطر، وهو ما ينسجم مع الممارسات الرشيدة في إدارة المنح، حيث لا يُعد التعثر فشلًا بالضرورة، بل مؤشرًا يستدعي المراجعة وإعادة الهيكلة، لا الاستمرار بدافع المجاملة أو الخوف من اتخاذ القرار،
وفي المقابل، يضع هذا المسار الجهات غير الربحية أمام اختبار حقيقي للانتقال من منطق المشروع إلى منطق المؤسسة، فالدخول في مسار الاستثمار الاجتماعي يتطلب قدرة على التخطيط المالي، وإدارة الموارد، وبناء نماذج تشغيلية تجمع بين الرسالة الاجتماعية والكفاءة الاقتصادية، بما يعزز فرصها في الحصول على منح أكثر نضجًا واستدامة،
وخلاصة القول، إن المؤسسات المانحة التي تعيد هندسة قراراتها التمويلية وفق منطق الاستثمار الاجتماعي تمارس دورها الحديث في إدارة المنح بوعي أعلى، فهي لا تبحث عن مشاريع تُنفذ ثم تُغلق، بل عن نماذج تُدار، وتنمو، وتتعلم، وتُعيد تدوير قيمتها الاجتماعية عبر الزمن، وبذلك يُترجم الاستثمار الاجتماعي المفاهيم النظرية لإدارة المنح إلى قرارات تمويلية واعية تُوازن بين الجدوى، والمخاطر، والاستدامة، وتُعيد تعريف المنحة بوصفها أداة تطوير لا مجرد تمويل.
بقلم / رشا محمد عسيري
برنامج الماجستير التنفيذي في إدارة الأوقاف والمنظمات غير الربحية – جامعة الباحة.
