ليس من السهل على قلب الأم أن يرى قطعةً من روحه تُحلّق بعيدًا نحو مستقبلٍ اختارته بشغف وإصرار. فأمّ المبتعث والمبتعثة تعيش مشاعر لا يفهم عمقها إلا من جرّب أن يسلّم جزءًا من قلبه لأرضٍ بعيدة:
فخرٌ لا يُوصف، وقلقٌ لا يراه أحد، ودعاءٌ لا يتوقف. وبين فرحتها بأبنائها الذين يسعون للعلم والنجاح، وخوفها من الغربة ووحشة المسافات، تظلّ الأم تمسك برباطة الجأش التي تُخفي تحتها وجعًا لا يشعر به إلا أمٌ عاشته.
وحين تقرر الأم السفر لزيارة ابنها أو ابنتها المبتعثة، تكون الرحلة محمّلة بالشوق. أسبوع واحد فقط… لكنه كافٍ ليعيد للقلب نبضه، ويذيب المسافات، ويعيد للحياة ألوانها. تراهم تحت ناظريها، تشمّ رائحة عطرهم، تسمع ضحكاتهم، وتجتمع معهم على مائدةٍ كانت تفتقد وجودهم حولها. وفي تلك الأيام القليلة، تتوقف الدنيا عند لحظة اللقاء.
لكنّ أجمل اللحظات هي أكثرها وجعًا حين تنتهي. وبعد أن تُحزم الحقائب ويحين وقت العودة، يبدأ الصراع الذي يختبئ تحت ابتسامة الأم. تودّع أبناءها بحنان، وتغمرهم بالدعاء، بينما قلبها يتشبث بهم حتى آخر لحظة. وحين تغادر، تشعر بأنها تترك خلفها جزءًا من روحها لا يُعوَّض، وتعلم أن الطائرة التي ستعيدها لن تحمل جسدها فقط، بل ستحمل قلقها وحنينها وأمنياتها التي لا تنتهي.
وها أنا اليوم أكتب لكم هذه الكلمات… لست في طائرة ولا في مطار، بل في القطار،
يمضي بي مبتعدًا بينما تركت خلفي ابنتي هناك… خلف الجبال والسهول والبحار. أنظر من نافذته فأرى طرقًا لا أعرفها، وأراضٍ ليست أرضي، وأشعر أن خطواتي تمضي في اتجاه، وقلبي ما زال واقفًا عند بابها وهي تلوّح لي. ليس سهلًا أن تمضي الأم وحدها، وفي يد ابنتها حلمٌ كبير حملته بكل شجاعة؛ حلمٌ تكفّلت به حكومة خادم الحرمين الشريفين — أعزّه الله — عبر برنامج يستثمر العقول النيرة ويصنع مستقبل الوطن. وإنه لشرف لا يُضاهيه شرف… أن يكون للإنسان ابنٌ أو ابنةٌ تسير في هذا الطريق المبارك، طريق العلم والإنجاز ورفع راية الوطن.
والغربة — مهما اشتدّت — هي التي تخرج لنا الطبيب، والمهندس، والدكتور، والطيّار. أبناءٌ تخرّجوا من جامعات تمتد من أمريكا إلى الصين، ومن أوروبا إلى أستراليا، يحملون راية التوحيد في قلوبهم، ويمثلون دينهم ووطنهم المملكة العربية السعودية بأفضل صورة. يثبتون أن أبناء هذا الوطن قادرون على التميز أينما حلّوا، وأن الغربة تصنع رجالًا ونساءً يليق بهم المجد.
وحين رحلتم عن أهلكم وغادرتم وطنكم… تركتم خلفكم فراغًا لا يُنسى، وحنينًا لا يُوصف، وأشواقًا لا تخمد.
يقولون إن لكل بداية نهاية… لكنكم أنتم العكس؛ فـنهاية دراستكم هي بداية مستقبل مزهر ينتظركم ووطن يفخر بعودتكم.
وفي ختام رحلتي هذه…
رسالتي لأبنائنا وبناتنا المبتعثين:
يا من حملتم أحلامكم على أكتافكم، وغادرتم أرض الوطن لتفتحوا لأنفسكم آفاقًا جديدة من العلم والمعرفة… اعلموا أنكم لستم وحدكم في هذه الرحلة. فكل خطوة تخطونها هناك، نعيشها نحن هنا بقلوبٍ معلّقة بكم، وبأدعيتنا التي تسبقكم قبل أن تفتحوا أعينكم كل صباح. أنتم فخر أهلكم، وزينة وطنكم، وسفراؤه بين الأمم. وإن مرّت عليكم لحظات تعب أو شعور بالغربة، فتذكّروا أن وراءكم أمًا تدعو لكم بصدق، وأبًا يرفع رأسه فخرًا بكم، وبيتًا ينتظر عودتكم بلهفة لا تنطفئ.
امضوا واثقين… واصلوا بثبات… واجعلوا أهدافكم أمام أعينكم مهما ابتعدت المسافات أو طال الطريق. فالغربة مرحلة تعبرونها، لكنها تُهديكم قوة، وتجارب، ونضجًا لا يأتي بسهولة. ننتظر عودتكم يومًا ما بشهادات ترفع رؤوسكم ورؤوسنا، وبخبرات تُضيف للوطن نورًا جديدًا، وبقلوبٍ صقلتها التجارب لكنها بقيت وفية لدينها وجذورها وهويتها.
حفظكم الله، ويسّر أموركم، وبارك في علمكم، وردّكم إلينا سالمين فخورين… كما نراكم في قلوبنا دائمًا

