مقال بقلم مبارك بن عوض الدوسري بعنوان (( رحلة المساء بين الذاكرة والحياة ))

منذ أن طوى صفحة عمله الرسمي في عام 1442هـ، قرّر ألا يطوي معها صفحة العطاء؛ كانت أيامه تلوّنها مسؤوليات الوظيفة وضجيج الحياة، لكن ما إن تقاعد حتى اختار طريقًا آخر – طريقاً من السكون المليء بالحياة.
كل مساء، بعد صلاة المغرب، يحمل في قلبه نية صادقة، وفي يده مسبحة لا تفارقه، ويتجه نحو بيت أحد كبار السن من أقاربه أو معارفه في مسقط رأسه بلدة النويعمة ، أو ديار أجداده وأهله في الشرافاء بوادي الدواسر.
لم تكن تلك الزيارات عادة عابرة، بل موعداً يومياً ثابتاً لا يقطعه إلا سفر أو مرض أو ظرف قاهر.
في البداية، ظنّ أن زيارته تسرّهم فقط، لكن الأيام كشفت له أنه هو المستفيد الأكبر؛ فقد وجد في مجالسة أولئك الشيوخ كنزاً لا يُشترى، وذاكرة تختزن التاريخ والقصص والعِبَر؛ كان يسمع عن أيام المطر حين كان كثيفاً كالمعجزة، وعن نخيلٍ صمد في وجه الرياح والجراد، وعن رجالٍ لم تترك الصحراء فيهم إلا الصبر والمروءة.
تعلّم منهم أن البساطة ليست فقراً، بل غنى في الرضا؛ وأن الكلمة الطيبة، حين تخرج من قلبٍ حكيم، يمكن أن تغيّر نظرتك للحياة بأكملها.
صار كل بيتٍ يزوره فصلاً جديداً من كتاب الحياة، وكل جلسة درساً في الصبر والوفاء والجذور.

ولم يمضِ وقت طويل حتى تحوّلت تلك الزيارات إلى عادة يعرفها أهل البلدتين، ينتظرها كبار السن بشوقٍ وحنين؛ يجلس بينهم فيسمع منهم عن ماضي النويعمة والشرافاء ، وعن الأنساب، وعن العلاقات التي كانت تُبنى على السلام والخبز والظلّ المشترك؛ حتى صارت ذاكرته هو امتداداً لذاكرتهم، ووجد نفسه يرسم صورة جديدة لبلدته وبلده أهله واجداده، أكثر عمقاً وإنسانية.
واليوم، بعد مرور أعوام على هذا العهد الجميل، بات يقول في نفسه كل مساء:
“ليست الحكمة في الكتب فقط، بل في وجوهٍ أنهكتها الشمس، وقلوبٍ مضت على درب الصدق والعزّة.”
تقاعد من الوظيفة، نعم، لكنّه لم يتقاعد من الحياة.

بقلم مبارك بن عوض الدوسري
@mawdd3

زر الذهاب إلى الأعلى