مقال بقلم د. تركي العيار أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود بعنوان (( تصريح بلا تجريح ))

الصُّراحة فضيلةٌ مطلوبة، ولكن متى تتحوَّل من فائدةٍ إلى جرح؟ وكيف نفرّق بين الصراحة البناءة والوقاحة؟ هذه أسئلةُ تهمّ الفرد والمجتمع على حد سواء.
أن تكون صادقًا، أن تقول الحقيقة كما تراها، أن تعبّر عما في نفسك من رأي أو نقد، كلها من القيم الإنسانية التي تُعزَّز التفاعل الاجتماعي الإيجابي، وتعزّز الثقة بين الناس. لكن هذه الصراحة قد تُساء فهمها، أو تُستخدم كذريعة للفظاظة أو التجريح، فتُفقد طعمها ونفعها، وتتحوَّل إلى أداة أذية بدل أن تكون جسراً للتواصل والتغيير.
تكمن أهمية الصراحة في الجوانب التالية:
1. بناء الثقة
تشير الدراسات إلى أن الأفراد الذين يصوغون علاقاتهم على أساس من الصدق يحققون مستويات أعلى من الثقة المتبادلة. الصدق يُعد من أهم القيم في استطلاعات World Values Survey.
2. تحسين جودة العلاقات
فالصراحة البناءة تساعد في حلّ الخلافات، فبدل أن تتراكم المشاعر، يُتيح الحوار المفتوح تصحيح المسار. الأبحاث في الأخلاق والمسائل الاجتماعية تؤكد أن صراحة الشخص في الحدود المقبولة تُقلّل من احتمال الاحتكاك الشخصي أو سوء التفاهم.
3. تقليل السلوك غير الأمين
دراسة من جامعة «UAB» الأمريكية وجدت أن حوالي ثلاثة أرباع المشاركين كانوا يُبلغون بين صفر إلى كذبة أو اثنتين يوميًا—أي أن الجزء الأكبر من الناس يميلون إلى الصدق في تواصلهم اليومي، بينما فئة صغيرة تُسيء استخدام الكلام أو تغلو في المبالغة أو التضليل.
السؤال المهم ، متى تتحوّل الصراحة إلى وقاحة وتجريح؟
للانتقال من الصراحة المفيدة إلى التجريح، عدة عوامل مشتركة:
اولا:الأسلوب والنبرة:
الصراحة لا تعني نطق الحقّ بأسلوب جارح؛ النبرة الحادة أو الكلمات المؤذية قد تحوّل الموقف إلى هجوميّ عوضًا عن بنّاء.
ثانيا: النية:
هل الهدف هو تبليغ الحقيقة بغرض المصلحة والتفاهم، أم التفوق الشخصي أو التحقير؟
ثالثا:الوقت والمكان:
الكلام في غير زمانه أو سياقه، أو أمام الآخرين حين يجب أن يكون بشكل خاص، يجعل الصراحة جارحة.
رابعا:حساسية الموضوع الآخر ومكانته:
الحديث بصراحة مع من تربطك به علاقة قوية كالأسرة أو الصديق مختلف عن كلام جاهٍ في العمل أو مع من لا تربطه به ألفة.
توجد في هذا السياق دراسات تُوضّح مدى تأثير التجريح ، اذكر منها:
– المعايير الاجتماعية والأخلاقية: دراسة بعنوان “Social norms and observability in (dis)honest behavior” تتناول كيف أن ملاحظة الآخرين لك (أن يُرى كلامك وتصرفك) تزيد من احتمال أن تكون صادقًا أو مهذبًا أكثر من حين تكون في خفاء، فالوضع الاجتماعي يُلزم الشخص بالحدود.
– الدراسات الثقافية بين المجتمعات: بحث بعنوان “The neuroscience of respect: insights from cross-cultural …” يبيّن أهمية الاحترام في الثقافات المختلفة، وكيف أن احترام الفرد ومكانته يُعرّف كيفية استقبال الصراحة. في ثقافات عالية السياق (High-context cultures)، كالشرق الأوسط، يُؤخَّذ في الحسبان “فظ-الصمت” ونبرة الصوت وغيرها من الأدوات غير اللفظية.
– نتائج سلبية عند تجاوز الحدود: عندما تُستخدم الصراحة كذريعة للتجريح، تظهر ردود فعل عكسية مثل الانسحاب، الكراهية، انخفاض التقدير للمتحدّث، وقد تنكسر العلاقة كلها بدل إصلاحها.
هناك بعض الأرقام والإحصائيات المفيدة في هذا الموضوع وهي على النحو التالي:
في الدراسة الأمريكية على أكثر من 630 مشاركًا لمدة ثلاثة أشهر، تمّ تسجيل 116,336 حالة من “الأكاذيب اليومية” تقريبًا. النتيجة كانت أن حوالي 75% من الناس كانوا يقولون من صفر إلى كذبة أو اثنتين يوميًا، بينما فئة صغيرة حوالي 6% يتجاوز عدد أكاذيبهم ستًّا يوميًا.
اما الدراسات الحديثة (‏2023-2025) في موضوع علم الصدق Honesty تُشير إلى أن هناك تفاوتًا كبيرًا في ممارسات الصدق بناءً على السياق الاجتماعي: وظروف الرؤية الاجتماعية (أنك قد تُرى أو لا تُرى) تؤثر على مدى اختيار الإنسان أن يكون أمينًا.
كيف نمارس الصراحة دون التجريح؟ إليكم بعض المبادئ التي يمكن لكل فرد أن يلتزم بها:

1. ابدأ بالإيجاب: قبل أن تعرّج على النقد، أذكر نقاط القوة، ثمّ انتقل إلى ما يمكن تحسينه.

2. اختر الكلمات بعناية: استخدم عبارات مثل «أرى أن»، «ربّما»، «لعلّ»، بدل التأكيد المطلق، لأنّ التواضع في التعبير يساعد على تلقي الرسالة.

3. التوقيت والمكان مناسبان: مواجهة تُجريها في لحظة غضب أو أمام الجمهور غالبًا ما تؤدي إلى الدفاعية، بينما حوار هادئ وخاص يكون أكثر فعالية.

4. احترام الشخص الآخر: لست أقل قيمة من الشخص الآخر، ولا يجب أن تُقلِّل من قدره أو تهينه، فالكريم يُحافظ على كرامة الآخرين حتى في النقد.

5. الاستماع أولًا: قد يفهم الآخر عدم وضوح أو سوء فهم، فاستمع أولًا ثم عبّر عن رأيك، حتى يصل الحوار إلى أرضية مشتركة.
خلاصة القول، الصراحة لازم تكون ركيزة في العلاقات الشخصية والاجتماعية، فهي تعزز الثقة، وتُسهّل حل النزاعات، وتساهم في نمو الفرد والمجتمع. لكن الصراحة وحدها ليست كل شيء: إن لم تُوظَّف ضمن إطار الاحترام، الودّ، النية الحسنة، والأسلوب المناسب، فقد تتحوّل إلى وقاحة تُفسد ما تهدف إليه.
فهي دعوة لأن نكون صادقين، بلا تجريح: قل الحقيقة، لكن لا تكسر القلوب.

زر الذهاب إلى الأعلى