مدخل:
1- لماذا القرابة اليوم أصبحت اتِّفاقاً بيولوجياً عابراً فقط؟
2- لماذا لا تكون القرابة صكاً أبدياً للمودة؟
3- كان الودُّ في الماضي حبلاً غليظاً من القُربى،
واليوم هو خيط رفيع يتآكل مع أول اختلاف سواء
مالي أو اجتماعي.
في معجم القيم، كان الحرف الأول من الكلمة الأولى يقول:
“صِلْ”؛ وكانت الجملة الأخيرة تهمس: “لا تقطع”؛ هناك، في
زمنٍ لم تبهت فيه ملامح الوجوه، كان الحيُّ أسرة، والجار
ظلّ البيت، والقريب مرآة القلب قبل أن يكون مرآة الملامح.
كانت النوافذ تُفتح للألفة قبل أن تُفتح للهواء، وكانت
الأبواب تصافح القادمين قبل أن تُصافح الأيدي.
لكن ما كان… انسلخ عن ما هو كائن. صارت لغة الحاضر
باردةً، تُقال في النشرات أكثر مما تُقال في الصدور،
وتُكتب في بطاقات التهنئة أكثر مما تُخطّ في سجلات الروح.
صرنا نحمل الأسماء ذاتها، ونرتدي الملامح نفسها،
لكنّ الخريطة التي تجمعنا لم تعد خريطة قلب، بل مخطط
أجساد تلتقي صدفةً على ورق النسب، وتفترق يقيناً على
أرض الواقع. والأرواح تتفرّق كما تتفرّق السحب في ريحٍ
عاتية. وما بيننا من روابط، أشبه بخيوط عنكبوتٍ على
جدارٍ مهجور؛ تراها قائمة، وهي في الحقيقة واهنة.
لغة مايجب أن يكون أن كل ودٍّ يُصان، وكل قرابةٍ تُحفظ؛
لكن لغة ماهو كائن مختلف تماماً عن لغة مايجب أن
يكون؛ لدرجة نكتشف أن الذين تقاسموا معنا الملامح
والدم لايوجد بيننا وبينهم أية روابط إلا رابط صوري
للاجساد في خريطة النسب، نعم هذه حقيقة في معظم
العوائل اليوم؛ حتى لو تظاهرنا أمام الآخرين بالترابط؛
فقط ما يربطنا بهم مجرّد جغرافيا الجسد لا خرائط الروح.
هل ترابط العوائل والجيران قبل 50 عاماً نفسه
اليوم؟ لا …… اليوم رغم أنهم أحياء إلا أنه كأنه بينهما
لحظات فاصلة من النعي. حينها ندرك أن القرابة قدراً،
لكن المودة اختيار، وأن دفء القرب لا يُستمدّ من العروق،
بل من ضياء النية وصفاء المعاملة، و لا يرسم على جدران
القلب أي أثر في غياب المحبة.
ترسل رسائلها أن المودة عقدٌ روحيّ لا يبرمه إلا الصدق
والوفاء.
آه يازمن مضى ……كان الزمانُ زمناً إذا مددتَ يدك وجدتَ
ألف يد، وإذا ناديتَ باسمك أجابتك الأسماء قبل الأجساد.
كان الودُّ عهداً لا يُستحلَّف عليه، والقربى جسراً لا ينهدم،
والجارُ ظلَّ دارك قبل أن يكون حجراً من جدارك.
كانت الأرواح تتعانق قبل أن تتصافح الأيدي، وتتشابك
القلوب قبل أن تتشابك الأصابع، وكان الجار يعرف أنفاس
جاره كما يعرف مواضع الأثاث في بيته.
كنت أظن أن القرابة حصنٌ منيع، فإذا ببعضهم يطرقون
بابه بأيدٍ تحمل معاول الهدم، لا مفاتيح الوصل.
فالود إن لم يجد تربة صالحة، ذبل.
والمعروف إن لم يلق قلباً شاكراً، مات.
والهجر الجميل… هو أن تمضي وأنت موقن أنك لم تترك
وراءك إلا ما كان يؤذيك.
وقفة استدراك قبل الختام:
1- المفارقة المؤلمة أن الموت لم يعد يقطع ما كان موصولاً، بل
صار يفضح أن القطع قد وقع من زمنٍ بعيد. فما نسمعه في
النعي ليس رحيل الأجساد، بل إعلانٌ متأخر عن رحيل
الأرواح عن خرائطها القديمة.
2- نلتقي في المناسبات كما يلتقي الممثلون على خشبة
مسرح، كلٌّ يؤدي دوره بحرفيةٍ في الابتسام والتصافح
والقلوب سوداء؛ ثم ينصرف كلٌّ إلى عزلته.
3- هل ممكن تعود العلاقات الأسرية مثل ماكانت قبل 50
عاماً؟ اعتقد نعود حين نفهم أن المسافة ليست ما يقيسه
المتر، بل ما يقيسه الصدق في العهد.