في مجتمعاتنا، لا يزال البعض يتعامل مع المشكلات الشخصية أو الأسرية أو الوظيفية أو الصحية بصمتٍ ثقيل، متجنبين التشكي أو طلب المشورة من المختصين، إما خجلًا أو كبرياءً أو خوفًا من نظرة الآخرين. هذه الظاهرة، رغم ما توحي به من قوة ظاهرية، إلا أنها في الواقع تعمّق الأزمة وتؤجل الحلول، وتجعل من التحديات أزمات مزمنة. يقول المثل الشعبي “اللي ما يشتكي ما يُعرف علّته”، وهذا صحيح؛ فكيف نتوقع أن تُحل مشكلات لا نتحدث عنها؟ وكيف يمكن للخبراء والمعنيين أن يساعدوا من لا يطلب المساعدة أصلاً؟ إن كتمان المعاناة لا يُظهر الصبر، بل قد يدل أحيانًا على جهل بطرق الحل أو ضعف في مهارات التواصل أو حتى اعتقاد خاطئ أن الشكوى ضعف.
فالشكوى ليست ضعفًا بل وعي
ففي دراسة نشرها مركز Pew Research Center عام 2023 حول أنماط التعامل مع الأزمات، تبيّن أن الأشخاص الذين يطلبون الاستشارة أو الدعم النفسي عند الأزمات، تقل لديهم احتمالات تفاقم المشكلات بنسبة 62% مقارنة بمن يكتمون معاناتهم أو يتجاهلونها. كما أكدت منظمة الصحة العالمية (WHO) أن التشخيص المبكر للأزمات النفسية أو الاجتماعية يرفع معدلات التعافي بنسبة تتجاوز 70%.
الشكوى الإيجابية هنا لا تعني التذمر، بل تعني الاعتراف بوجود المشكلة واللجوء إلى ذوي الخبرة. وهذا أمر بالغ الأهمية؛ فمهما بلغ ذكاء الإنسان وخبرته، فإنه لا يستطيع بمفرده الإحاطة بكل جوانب الحياة. نحن بحاجة لبعضنا البعض، ولمن هم أكثر دراية أو تخصصًا في المجالات المختلفة. فكم من شاب تأخر في زواجه لأنه لم يستشر المختصين في مهارات العلاقات الأسرية؟
وكم من موظف فقد وظيفته لأنه لم يُصرّح بمشكلته مع مديره ولم يلجأ إلى الموارد البشرية أو مستشار مهني؟ وكم من مريض تفاقم وضعه الصحي لأنه خجل أن يراجع طبيبًا نفسيًا أو استشاريًا؟
فهذه النماذج ليست نادرة، بل شائعة جدًا، وأساسها واحد: تجاهل المشكلة لا يحلها، بل يرسّخها ويعطيها وقتًا لتنمو وتتعقد. ففي عالمنا اليوم، أصبح التخصص هو الطريق الأنجع للتعامل مع الأزمات. ففي كل مجال توجد نخبة من العلماء والخبراء والمختصين الذين كرّسوا حياتهم لفهم تلك المشكلات ووضع الحلول العلمية والمنهجية لها. ولذلك، فإن اللجوء إليهم ليس فقط قرارًا حكيمًا، بل ضرورة. فالدراسات النفسية والاجتماعية تؤكد أن طلب المساعدة يخفف التوتر، ويعزز فرص التعافي، ويمنح الإنسان خيارات أوسع لاتخاذ قرارات مدروسة. وفي دراسة نشرتها جامعة هارفارد عام 2021، أشار الباحثون إلى أن الأشخاص الذين يتعاملون مع مشكلاتهم عبر استشارات خارجية أكثر رضا عن قراراتهم بنسبة 47% من أولئك الذين يتخذون قراراتهم بمعزل عن الآخرين.
خلاصة القول ،”من لا يشتكي لن يجد حل” ليست مجرد عبارة عابرة، بل هي دعوة للوعي والمسؤولية. من الحكمة أن نكون شجعانًا في مواجهة مشاكلنا، والأكثر حكمة أن نطلب العون ممن يملكون أدوات الحل، فالمشكلة لا تختفي بتجاهلها، وإنما بالاعتراف بها والعمل على حلها. دعونا نُشجع ثقافة الاستشارة، ونعزز في نفوس أبنائنا وزملائنا ومجتمعنا أن طلب المساعدة ليس عيبًا، بل هو أول الطريق نحو الراحة والنجاح والاستقرار.