الرياض _روزان المطيري
في زمنٍ كانت فيه القصائد لا تُدوَّن بل تُروى، ويُحمل الشعر من ذاكرة إلى أخرى، برز صوتٌ نسائي نادر، صادق، ومؤثر.. إنه صوت موضي الدهلاوية، الشاعرة التي سكنت القصيم، تحديدًا الرس، وعاشت بين أواخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر الهجري.
كانت موضي من أسرة ذات مكانة، ومن قبيلة عريقة. وما كتبته لم يكن شعرًا فقط، بل كان سردًا وجدانيًا لحياتها كأنثى تعيش في مجتمع بدوي قاسٍ، تُحب وتنتظر، تُعاتب وتفخر، تُخلص وتغضب، دون أن تفقد كرامتها أو أنوثتها أو شموخها.
الحنين الأول.. لجديع بن هذال
من بين القصائد التي وصلتنا، قصيدتها إلى زوجها الأول جديع بن هذال، والذي طال غيابه في الغزو أو الترحال. في هذه الأبيات، رسمت موضي مشهد الشوق والاشتياق بصور بديعة:
يا راكباً حِيْل بروسه لجاجة
مضرّيات للمسارى والادلاج
لا روّحن بالدَّوْ كِنْ انزعاجه
سِفْنٍ حداها بالبحر بعض الامواج
سفن البحر سود بروسه فجاجه
ورقابهن زعاج من يبس، الامواج
يَلْفن على من علتي هي علاجه
تلقون بيته للمسايير مدهاج
تلقون شيخٍ ساكنٍ بالعجاجة
جديعٍ اللي للمجاويخ زعّاج
سلّم على اللي راح للحَوْل ماجه
وقل له خُويّك ضايق الصدر وعلاج
وقل لابن وايل كان وِدّه يواجه
القَيْظ فات وبارق الوسم لعّاج
أمي توصّينى عن الانزلاجة
وقلبي إذا جا طاري البدو ينفاج
أمي تقول ان التمني سماجة
واقول انا بعض التمني به افراج
العقوبة القاسية.. والرد الكريم
حين تناقل الناس شعرها، غضب جديع، ورأى في ذلك مساسًا بكرامته، فكتب قصيدة أعلن فيها طلاقها:
يا راكبا حِيْل إذا لجلجنِّ
عوص لهن مع نازح البِيْد مرمال
إذا مِشَنْ مديدهن ما يوِنِّ
لكن حاد يهن مع الدَّوْ خيّال
مدَّن من الانجاج حين انهلنِّ
والظُّهر عند سخَيْف اللون مقيال
والعصر عند صويحبي بَرّكَنِّ
أبو ثمان كنهن دَرّ الاجهال
لا جيت موضي يا مناي ومضَنِّي
وصِّل سلامي بنت ماضين الافعال
وقل له تراها طالق الحبل مني
اللي قصيده يلعبه كل رجال
فجاء رد موضي رائعًا، قويًا، رفيعًا في الأدب، ومشحونًا بكرامة الأنثى ووضوح الموقف:
حَيْ الجواب وحَيْ من هو جوابه
يا شيخ يا مِكْدي غثيثين الاجناب
يا شيخ والله ما مشيت بمعابة
ولا خايلَتْ عيني على كل نصّاب
وان كان قولي فيك كلٍّ حكى به
عِرْضي نزيه ولا حكى فيه هزّاب
أرجيك رجوى البادية للسحابة
وجازيتني في كلمة مالها اسباب
هذا نصيب وما بغى الرب جابه
وان صك باب العبد عنده مية باب
الندم… وقرار لا رجعة فيه
ندم جديع على تهوره، وسعى للعودة إليها، لكنها رفضت بعزة نفس لا تتنازل عنها، وقالت في واحدة من أعظم قصائد الكرامة:
جديع يوم انه بغاني بغيته
ما طمّحوني عنه كثر العشاشيق
واليوم يوم انه رماني رميته
رمية وضيحيٍّ رموه التفاقيق
جديع انا حرّمت مسكان بيته
إلا مغيب الشمس يرجع لتشريق
والا ان صوت الحي يوحيه مَيْته
أو ينبلع سم الحيايا على الريق
عسى يجيني شيخ يُسمَعْ بصيته
منعور يعطي من طوال السماحيق
وفاء حتى بعد الفقد
رغم ما حصل، حين قُتل جديع في معركة “كير”، لم تفرح موضي، بل رثته بقصيدة حزينة مؤثرة، وخاطبت وضحى بصدق ووفاء، ولامت رفاقه الذين تخلوا عنه:
يا كِيْر لا مرّت عليك المخاييل
في قاعتك يا كير حل الذباحِ
هلّيه يا وضحى دموع هماليل
على عشيرك يم ضلع البطاحِ
لومي على اللي يلبسون السراويل
ما عفّتوا رقابهن يوم طاح
خلّوه بوجيهٍ عصاة المغاليل
وراجوا عليه مغلّبين الرماحِ
أخذ حلاوتها جديع بن منديل
وخلّى الغثا لرباعته واستراحِ
الشوق من جديد.. ولكن
ولأن حياة البدو ما تتغير، ومع مجلاد أيضًا كانت الرحلات والغزوات، وكتبت له موضي قصيدة تصف الشوق، والانتظار، والحياة اليومية في المضارب:
يا راكبا ملحاً تكب الشداد
عملية ما هي بتمشى على هون
مثل الظليم ليا مشى مع حَمَادِ
أقْفَى وقلبه حروة الدِّحْو مشطون
يا اخو هوى يا القرم وين انت غادي
ودِّي على جال الرفايع تنبون
بالحاجر المنقاد مع بطن وادي
فوقه دواويرٍ على العِدْ يردون
حَزَّة طلوع الشمس وقت المقادِ
من حين رعيان البوادي يمدون
تسمع لَسْبر القوم حسه ينادي
عاين وهو بالرجم للجَوْ مقطون
يقول شفت الطرش دونه نكادِ
غوش على شِهْب الغوارب يعنون
كلمة أخيرة
موضي الدهلاوية ما كانت مجرد شاعرة تكتب الغزل، بل كانت وثيقة أدبية تسجل مشاعر الأنثى البدوية بكل ما فيها من ضعف وقوة، من شوق ورفض، من حب وكرامة. كانت ترى التمني ليس ضعفًا، بل فرجًا، وترى الصبر وقفة عز، وتؤمن بالقدر حتى حين يكسرها.
هذا النوع من الأدب الشعبي يستحق التوثيق والدراسة لا لبلاغته فقط، بل لأنه يحمل ملامح مجتمع بأكمله، يُروى على لسان امرأة عاشت فيه بصدق وشموخ.