مقال بقلم الأستاذة الدكتورة داليا المتبولي بعنوان (( السعودية أبهرت العالم في حج 1446شكرًا سمو الأمير على رؤية تصنع المعجزات ))

في موسمٍ تتجه فيه القلوب إلى مكة، خطّت المملكة العربية السعودية ملحمةً حضاريةً جديدة، مزجت فيها بين قدسية الشعائر وروعة التنظيم. لم يكن الحج هذا العام مجرد فريضة، بل شهادة عالمية على عبقرية القيادة وحكمة الإدارة. فقدمت ملحمه للتنظيم البشري والروحاني حيث تماهت الصحراء مع التقنيه وتزاوجت الجبال مع الذكاء الاصطناعي وتألف الزمن العتيق مع العصر الحديث دون ان يتنكر احدهما الي الاخر

نحن هنا لا نتحدث عن آلاف، بل عن ملايين. كل منهم له ظروفه، ثقافته، لغته، حالته الصحية، وضعه النفسي. والمطلوب أن تُنظّم هذه الكتلة البشرية، لا بقوة القانون فقط، ولكن بما هو أرقى: بفهم الإنسان، وتحقيق المعادلة الصعبة بين الانسانيه والنظام. وهذا تحديدًا ما نجحت فيه المملكة العربية السعودية ، حيث أدارت موسم الحج لعام 1446 هجريًا بما يشبه المعجزة المدنية.

ما يلفت النظر في أسلوب المملكة هذا العام أنها لم تعد تتعامل مع موسم الحج كحدث موسمي، بل كأحد وجوه الدولة الحديثة. تمامًا كما تُدار المدن الذكية أو المشروعات الكبرى، أصبح الحج مشروع دولة متكامل، فيه الوزارات، وفيه التقنية، وفيه عنصر الزمن الذي لا يحتمل الخطأ. ولأول مرة، بدا واضحًا أن الدولة تسير في اتجاه تجاوز التقليدي إلى الذكي، وتجاوز المركزي إلى التشاركي. فالنجاح الذي تحقق لم يكن فقط بفضل وزارة الحج، بل بتكامل غير مسبوق بين الأمن، والصحة، والنقل، والذكاء الاصطناعي، بل وحتى الثقافة.

لم يعد الحاج يحتاج إلى أن يسأل عن وجهته، فهاتفه يخبره. ولم يعد الطبيب يبحث عن الحالة، فكل شيء مسجل ومُتابع إلكترونيًا. والمواطن السعودي، الذي كان قديمًا مساعد موسمي، اصبح اليوم متطوعًا مدرّبًا، يعرف كيف يهدّئ الحاج المرتبك، وكيف يدله على النُسك كما يدله على الماء. ما فعلته السعودية هذا العام هو أنها طبّقت مفهوم «الحج الشامل»، لا من حيث الحركة فقط، بل من حيث الإنسان.

وما وراء هذا النجاح كان واضحًا لمن يقرأ السياسة من تحت جلدها: المملكة تريد أن تقول للعالم إنها ليست فقط بلد النفط ولا الصفقات، بل هي بلد التنظيم الذي يخدم الروح. كانت هناك رسالة عميقة في كل مشهد: نحن الدولة التي تستقبل ملايين من كل جنس ودين ولون، وتُديرهم بلطف النظام، وعدالة المسؤولية. وقد بدا الحج هذا العام كمسرح عالمي صامت، تتحرك فيه المملكة كمخرج خفي، لا يظهر في الصورة، لكن لمساته حاضرة في كل مشهد.

فما فعله رجال الأمن، على سبيل المثال، كان نموذجًا لما ينبغي أن يكون عليه رجل الدولة: صارم في المبدأ، لين في المعاملة، حاضر بلا ضجيج. لم تكن هناك مظاهر قوة استعراضية، بل كانت هناك هيبة النظام. حتى الاختناقات المرورية المعهودة، اختفت إلى حد كبير، بفعل توزيع الحشود، وجدولة الحركات، والاستفادة من كل ساعة زمنية كأنها كنز. ولأول مرة يشعر الحاج أن الزمن في مصلحته، لا عليه.

اما علي مستوي المشهد الصحي، المستشفيات على أهبة الاستعداد، الطواقم تتحدث بلغات متنوعة، والدواء يصل قبل أن يأتي الألم. لقد فهمت المملكة أن الحاج مريض بالقلب أحيانًا، أو مُسنًّا أحيانًا، أو يأتي محمّلًا بأدوية وأحزان، فوفّرت له بيئة يُشفى فيها من نفسه ومن مرضه. وليس هذا ترفًا، بل ضرورة. فمن يخدم الحاج اليوم، يخدم التاريخ غدًا.

إن ما حدث هذا العام هو فصل جديد في إدارة الحج، فصل كتبه قياده حكيمه ومؤسسات ناجحة وشعب مضياف ، فاثبتو للعالم أن الوطن لا يُقاس بكثرة المال فقط، بل بقدرته على أن يحتضن الإنسانية بأكملها حين تأتي طائعة إلى الله. وقد جاءت، هذا العام، فوجدت ما يليق بها.

تحيه فخر واعتزاز وشكر تتوجه بها القلوب قبل الكلمات إلى الأمير محمد بن سلمان، على ما قدّمه من رؤية حكيمة وإدارة استثنائية لموسم الحج. لقد أثبتت القيادة السعودية أن خدمة ضيوف الرحمن ليست مجرد مسؤولية، بل شرف تتوارثه الأجيال، وتُسخَّر له الطاقات والتقنيات. فبرعايتهم المباركة، تحققت نقلة نوعية جعلت من الحج نموذجًا عالميًا في التنظيم، يجمع بين الروحانية والحداثة. هذه القيادة الجليلة أكدت أن المملكة ليست فقط حامية المقدسات، بل قائدة ملهمة تضع الإنسان أولًا، وتخدم الحاج كأنما تخدم العالم أجمع.

الأستاذة الدكتورة داليا المتبولي
أستاذ الإعلام بالجامعات المصرية

زر الذهاب إلى الأعلى