في زمن تتسارع فيه معايير الإنجاز، وتتزايد فيه الضغوط الاجتماعية والمهنية، يندفع بعض الأفراد – بحسن نية – إلى محاولة تحقيق “المثالية التامة” في كل جوانب حياتهم. فهم يريدون أن يكونوا أفضل الآباء، وأكفأ الموظفين، وأجمل الأشخاص، وأكثرهم التزامًا وأخلاقًا وكمالًا، حتى في التفاصيل الصغيرة. غير أن هذا السعي المحموم نحو الكمال يصطدم بجدار الحقيقة الكبرى: لا وجود لإنسان كامل، ولا مثالية مطلقة، فالكمال لله وحده، وكل ابن آدم خطّاء.
تشير دراسة نشرتها جامعة York البريطانية عام 2023 إلى أن أكثر من 68% من الشباب في الفئة العمرية 18-35 يعانون من ما يسمى بـ”الاحتراق النفسي المثالي” (Perfectionistic Burnout)، وهو شعور دائم بالإجهاد والضغط نتيجة محاولة الوصول إلى معايير ذاتية غير واقعية. كما وجدت دراسة صادرة عن جمعية علم النفس الأمريكية (APA) أن معدلات القلق والاكتئاب ارتفعت بنسبة 33% بين الأشخاص الذين يضعون معايير مثالية مفرطة لأنفسهم، مقارنة بغيرهم. فهذه الظاهرة، التي يمكن وصفها بـ”المثالية المصطنعة”، لا تنبع من طموح مشروع، بل من تصور مشوّه لمعنى النجاح والكمال، تغذيه وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، التي تعرض لنا حياة مثالية زائفة لا تعكس الواقع بل تزيّنه وتحجبه. وهكذا، نقارن أنفسنا بصور معدّلة، وسرديات منتقاة، فنفقد الإيمان بأننا بشر، لنا حدود ونواقص وظروف، ولسنا آلات. إن السعي لتحسين الذات أمر محمود، بل واجب في بعض الحالات، لكن الخطورة تكمن في عدم إدراك الفرق بين التحسين الممكن والمثالية المستحيلة. فمن الطبيعي أن نخطئ، ومن الطبيعي أن ننجح أحيانًا ونفشل أحيانًا أخرى. فرحم الله امرءًا عرف قدر نفسه. فحين نعي قدراتنا المحدودة، ونتعايش معها، ونتقبل حدودها، ننجو من فخ جلد الذات، ونمنح أنفسنا السلام الداخلي.
في كتابها “الهدوء: قوة الانطوائيون في عالم لا يتوقف عن الكلام”, تقول الكاتبة سوزان كين: “المثالية قد تكون عبئًا على الروح إذا تجاوزت حدود العقل والمنطق”. وهذه العبارة تلخّص بدقة جوهر المشكلة، فحين تتحول المثالية إلى هوس، نفقد بهجتنا، ونصبح سجناء توقعاتنا.
ينبغي علينا أن نعيد النظر في مفهوم النجاح والمثالية، وأن نؤمن بأن الإنجاز ليس في الوصول للكمال، بل في السعي النزيه نحو الأفضل ضمن حدود قدراتنا وواقعنا. وهذا لا يعني الاستسلام، بل يعني الواقعية والنضج النفسي. فالمثالية ليست أن تكون خاليًا من العيوب، بل أن تحاول رغم العيوب.
ختاما، علينا أن نربّي أبناءنا وطلابنا وموظفينا على ثقافة الاجتهاد لا الكمال، وعلى الإيمان بأن الأخطاء جزء أصيل من التجربة البشرية. فحين نكف عن التظاهر بالمثالية، نمنح أنفسنا فرصة أن نعيش بصدق، وأن ننجح بهدوء، وأن نسعد دون شعور دائم بالتقصير.