في زاوية من زوايا الروح، حيث تتكدس الأمنيات كأوراق الخريف المتساقطة، يقبع الفرح، ذلك الضيف الخجول الذي نؤجل استقباله إلى موعدٍ لا يأتي. نرسم له مواسمَ في الخيال، ونعدّ له أيامًا نتصورها مثالية، لكننا، في غمرة انشغالنا بالانتظار، ننسى أن الفرح لا يحتاج إلى دعوة رسمية، ولا إلى لحظةٍ كاملة الأوصاف. فلماذا، إذن، نؤجل الفرح؟
ربما لأننا أسرى وهم الكمال. نؤمن، في قرارة أنفسنا، أن الفرح لا يليق إلا بيومٍ خالٍ من الهموم، أو بانتظار إنجازٍ عظيم، أو بلحظةٍ تُكتمل فيها كل الأحلام. نربط الفرح بشرطٍ مؤجل: “عندما أحقق هدفي، سأفرح”، “عندما أمتلك ما أريد، سأبتسم”. لكن الحياة، بطبيعتها المتمردة، لا تنتظر شروطنا. إنها تتدفق كالنهر، تحمل في تيارها لحظاتٍ صغيرة من البهجة، لكننا نغفل عنها ونحن ننتظر الشلال العظيم.
أحيانًا، نؤجل الفرح خوفًا منه. نراه نجمةً ساطعة، لكننا نخشى أن تحرقنا وهجها. نتساءل: ماذا لو كان الفرح لحظيًا، ثم عاد الفقدان؟ ماذا لو استسلمنا له، فأفقدنا توازننا؟ فنجد أنفسنا، بوعي أو بغير وعي، نختار أمان الحزن المألوف على مجازفة الفرح العابر. الحزن، بطريقة ما، يبدو أكثر استقرارًا، أكثر إخلاصًا في بقائه، بينما الفرح يُشبه الطائر الذي قد يغادر فجأة، تاركًا وراءه صمتًا ثقيلًا.
لكن، أليس في تأجيل الفرح ظلمٌ لأرواحنا؟ أليست لحظات البهجة، مهما صغرت، هي الوقود الذي يُضيء دروبنا؟ كوب قهوة يحتضنه الصباح، ضحكة طفل تتسلل إلى القلب، أغنية قديمة تعيدنا إلى زمنٍ كنا فيه أخفّ وطأة… كلها أبواب صغيرة للفرح، لكننا نمرّ بها مغمضي العينين، منتظرين بوابةً عظيمة لا وجود لها إلا في أوهامنا.
في المملكة العربية السعودية، حيث تتسارع وتيرة الحياة مع رؤية 2030، وتتداخل الأحلام الكبيرة بالواقع المتغير، أصبح تأجيل الفرح عادةً جماعية أحيانًا. نركض وراء الأهداف، نطارد الإنجازات، وننسى أن نلتقط أنفاسنا لنحتفل بلحظةٍ عابرة: منظر غروبٍ يتسلل من نافذة، أو لقاء عابر مع صديق قديم. لقد علّمتنا التحولات أن نكون طموحين، لكنها لم تعلمنا دائمًا كيف نكون سعداء في الطريق.
الفرح ليس وجهةً نصل إليها، بل هو رفيقٌ يسير معنا. إنه في التفاصيل: في رائحة المطر على أرضٍ ظمأى، في صوت أمٍ تدعو لأبنائها، في لحظة صمتٍ نصغي فيها إلى أنفسنا. إن تأجيله هو اختيارٌ نُقيد به أرواحنا، نُبعدها عن حقها في أن تتنفس الحياة بكل ألوانها.
فلنكفّ عن انتظار الفرح كما ننتظر موعدًا في تقويم. لنفتح له الأبواب الآن، لنسمح له أن يتسلل إلى قلوبنا دون شروط. ففي كل لحظةٍ، مهما كانت صغيرة، ثمة فرحٌ ينتظر أن نراه، أن نعانقه، أن نعيش معه ولو لثوانٍ. والحياة، بكل تقلباتها، تستحق أن نمنحها هذا الحق. فلماذا، إذن، نؤجل ما يجعلنا أحياء؟