مقال بقلم/ أ. أحمد عزير بعنوان (( هذيان ليس إلا.. ))

استمع الى هذا الخبر

ذات مساء، أبت نفسي الأمارة بالحب إلا أن أكون هناك، في قريتي الصغيرة الغافية على ضفاف الجدول، وجدتها ما زالت غافيةً كما تركتها، وكأنها تهمس لي معاتبة، وكأنها تنتظرني لأوقظها قبل كل الناس.

كنت أسابق الزمن لأظفر بساعة احتضار الليل وولادة شمس يوم جديد، كي أرى صورتها منعكسة على صفحة الماء، كما رأيتها لأول مرة قبل عقود.
يقولون: إن لبعض المدن روح امرأة، وأنا أرى في قريتي روح حبيبتي التي أحببتها ببراءة وطهر، تجولت في أزقة القرية، مررت بطرقاتها أتفحص معالمها عبثًا أحاول لملمة شتات الذكريات. كنت أتأمل جدران البيوت بعيني، وأصافح السماء بكفي، علّ لحظة واحدة تجمعنا.
ما زلت أراها، والعرق كاللؤلؤ الأبيض يتصبب من جبينها، وهي في فناء بيت قريبتها، تخاتل كل الأعين كي تلتقي عيناها بعيني، فنتسمر للحظة، وكأننا نمسك الأرض بتلابيبها كي لا تتحرك وتفسد علينا موعدنا.
كان وجهها جميلًا وبهِيًّا، مشربًا بحمرة خجولة، لها شفتان حمراوان لم تلامسهما مساحيق المصانع، وشعرها الكستنائي المنسدل على كتفيها كأنه خيوط ذهب.
هَمتُ في الطرقات، لا ألوي على شيء سوى مشاهدة كل ما وقعت عليه عيناها ذات يوم: البئر المهجورة، المدرسة العتيقة، والجدران المتهالكة لمنازل قضى أهلها.
لم أعد أرغب في رؤيتها، لكنني أتوق لرؤية فصول الذكريات التي جمعتنا.. فإني مغرم إلى حد الثمالة.
لم أعد أرغب أن نلتقي، ولا أرغب أن نلتقي، لأن قدرنا ألّا نلتقي… يكفي أن تتعانق أرواحنا قبل النوم، وقبل الموت، وبعد الموت.

زر الذهاب إلى الأعلى