إبن العم والأخ والصديق ،، “أبوعبدالله” عبدالرحمن الصالح ،،ليس الفقد واحد


كتبه / صالح بن أحمد الصالح

بعد أن بلغنا الشهر الأول في الحزن الممتد والمتجدد وهدأت الأقلام ووسائل التواصل الإجتماعي وأحاديث المجالس ، وإستقر الألم وأخذ الحنين مكانه الأبدي في قلب المُحب ، وعقدت المدامع موعد مع كل ذكر يحل أو طيف يهل لإبن العم النقي والصديق الوفي والأخ الرضي عبدالرحمن العبدالله الصالح رحمة الله عليه ، والذي كانت وفاته مساء يوم الخميس والصلاة عليه بعد ظهر يوم الجمعة الموافق 10 / 5 / 1445 ، و سأتحدث حديث الرفيق القريب طيلة ستة عقود ، فقد عشنا الطفولة في بيت واحد لأكثر من عقد ونصف متقاسمين كل تفاصيل اليوم والليلة ، كان فيها أرق من النفس على النفس ، وألطف من الأخ للأخ ، وأرأف من الهواء مروراً وأنفس من العطر عبوراً ، لم تمر به أو منه الشقاوة والمشاكسة المعتادة في مثل ذلك العمر ، السكينة كانت لباسه الذي يصبح ويمسي به ، والمشاركة في الواجبات تأتي بعرض منه ولا ينتظر الطلب في العطاء ، والدتي كانت تعامله كواحد من أولادها وهو يعاملها كوالدته ، وتقول عنه والدتي أمد الله في عمرها على طاعته ومتعها بالصحة والعافية أنه ممسوح بالطمأنينة من بكور عمره حتى وفاته رحمه الله ، ولا تذكر له أذية أو إزعاج أو ألم سببه لها أو لغيرها ، دائم السؤال في كل مكان ومع كل زمان وحفي عند الإطمئنان ، وفي كل حال أو مناسبة تجد ريادته قبل غيره ، يعامل إخواني معاملة الأخ الأكبر لهم ويتابع تعليمهم الدراسي ويراقب سلوكهم وصداقاتهم ، وحتى وفاته كان دائم السؤال عن ذرياتنا وهو الحفي بهم واللطيف معهم ويبحث ويسأل عنهم جميعاً ويشجعهم ويدفعهم لإثبات أنفسهم بجدهم وإجتهادهم ومتابعة تحصيلهم ورسم مستقبلهم وتشريف أسرتهم ووطنهم ، ولذا قد قُيل من لانت كلمته وجبت محبته وهو ذاك.
وبعد وفاة والدي رحمة الله عليه بدأت علاقة الرفقة والمجموعة الواحدة من الأصدقاء ، وأستمرت الصداقة حتى أخر لقاء به قبل وفاته بأيام ، ومضت سريعاً عقود من العلاقة كان فيها صاحب مبداء واحد لم يتغير ، فيه خصال قل أن تجدها في مثله ، وكتب عنها الكثير من الأحبة وكل ماكتب عنه حقيقة صادقة وشهادة ناطقة ، ولكنني لم أجد من يبادر مثله في قضاء الحاجات قبل أن تطلب منه ويعرض المساعدة منه فور معرفته لها وإن لم يقصد بها ، وأراه ولا نزكي على الله أحداً مطبقاً لحديث النبي ﷺ حين قال: “لا يؤمن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه” ، لانه محب للخير عند كل الناس ولا يحجب عنهم إستشارة تنفعهم ويتطلع أن يكون كل من حوله سعيد ويدرك أن سعادة الجميع ورزقهم لا تنقص من سعادته ولا من رزقه شيء ، وإذا كان هو سبب لهذا الرزق وتلك السعادة فإنه يشعر بفرح كبير داخلياً ، فهو فضل ساقه الله له لينفع به غيره “ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ” ، ومما عرفته ووقفت عليه وعرفت نتائجه “رعايته للأيتام وعنايته بهم” وما كان في يوم الصلاة عليه وحضور أحد الأيتام ليقدم العزاء لذويه وهو أشد منهم حزناً وبكاءً عليه ولوعة على فراقة لدليل على ذلك ، ونسأل الله له مثلما قال ﷺ “أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة ، وأشار بالسبابة والوسطى” ، ووقفت كذلك على سداده لديون عن أهلها ، وشفاعات عديدة لمن مسهم الضر وكسرتهم الحاجة من الأرامل والمساكين ، ونعلم جميعاً أن الله إذا أراد بالعبد خيرًا؛ جعل قضاء حوائج الناس على يديه ، قال ﷺ (إنَّ للهِ أقوامًا اختصَّهم بالنِّعمِ لمنافعِ العبادِ) . وشاهدت وغيري درجات عليا من رضى والدته رحمها الله ثم والده عمي الغالي عبدالله وشق أبي الأغلى الذي كان يقول لنا بصريح العبارة “لن يفرقني عن عبدالله إلا الموت” وكذلك كان ، وبقي عهد عندي وعن أخواني أن لا يفرق محبتنا عن بعضنا إلا الموت دون إنقطاع الإحسان والدعاء ، وله رحمه الله سيرة ومسيرة طويلة في بر والديه أراها تستحق الرواية والذكر فقد كان بهم حفياً ملازماً وغير متضجر ويرى فيما يقدم لهما من حقهما مصدر سعادة حقيقية ومنحة فضل من الله له ، وتوالت عنايته بصداقات والده وعلاقات والدته ومداومة الزيارة والرعاية والإحسان لأرباب تلك المنضومة التي كان يعتبرها إمتداداً لحب أبدي وواجب لهما .
وأتشرف بتواصل معه شبه يومي ويحرجني كثيراً في الثناء والعرفان وهو الذي لا يرغب به لنفسه وهذه درجة عليا من الخيرية قليل مثلها وكأنه ينسب الخير لك ويعترف به منك ولا ينسبه لنفسه ولا يعترف به منه ، ثم إنه يعظم ماتقدمه له ويُحجم مايقدمه لك حتى وإن كان الفضل في الزيادة له والمواقف في ذلك عديدة ومتنوعة ، وأشهد له صادقاً أنه لا يرغب مطلقاً في ذكر مايقدمه ويوصي بذلك وله خبايا مع الله عديدة لا يعرفها أحد ولكنني أشعر بسعادته وأقراء مافي نفسه إذا قدم مايسعد به الناس ويكسو وجه سعادة مختلفة ويأتي إلينا وكأنه قد بُشر بشيء يعرفه أو يتمناه ومتأكد منه بعد أن كان يسعى إليه وهو بالفعل قد بُشر برضى الله ومحبته لأن أحب الخلق إلى الله أنفعهم للناس ويدرك رحمه الله فضل الله عليه الذي إختصه بقضاء حاجة المحتاج ، وعشت معه أدق التفاصيل في تحقيق حلمه في بناء المسجد المقابل لمنزله بصفتي الصديق والمستشار والمنفذ ثم حلم إكتمال مرافقه ، ويقول لنا ولأولاده أننا أكثر حاجة للأجر من المحتاج للإحسان والفضل بعد الله له أن دلنا على حاجته وأعاننا الله على قضاءها ، وله رحمه الله قبول عند الناس ويحدثني بعض الموسرين أننا نثق في شفاعته ولا نسأله عنها ونقدم له مانستطيع والفضل بعد الله له أن أعاننا على أنفسنا ويسر لنا الطريق للمستحقين ، وله حضور لافت وحميمية وصدق نشاهده معه ومنه معنا ومع غيرنا ويتساوى في اللطف عنده الصغير والكبير والغني والفقير ، ويعلو وجهه بشاشة وبشر وإبتسامة دائمة وكأنه خُلق مبتسماً ويعلم يقيناً أن “تبسمك في وجه أخيك صدقة”.
أخيراً ،، أثق بعد رحمة الله وفضله أن إبن العم الغالي رحمة الله عليه قد إستشرف مستقبله باكراً وعمل بتوفيق الله لما بعد الموت ( وَما تَدْري نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدًا وَما تَدْري نَفْسٌ بِأيِّ أرضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير ) ، وما شاهدناه من تفاعل وسؤال مع خبر مرضه القصير جداً وماصاحب موته والصلاة عليه من حزن وفجيعة ليؤكد محبة الأهالي الصادقة له ويُثبت فعله الطيب وحسن علاقته مع الله وتواصله مع الناس وهذه بشائر يسوقها الله لعباده الصالحين مبكراً ويعينهم عليها ويسعدهم بها ويُسعد من حولهم ، ويقول سبحانه وتعالى “وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” ونشهد بالله أنه قدم خيراً لنفسه وقدم خيراً وقدوة حسنة وتربية صالحة للنشىء سيثقل الله بها ميزان حسناته ويرفع بها درجاته ، ولقوله سبحانه وتعالى : “من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ” ونرجوه وهو البر الكريم على صدقه في حمل الأمانة أن يجازيه عنا وعن كل من أحسن إليهم خير الجزاء ونسأل أن يعامله برحمته وعفوه وإحسانه أن يرفع درجته وُيقيل عثرته ويجمعه بوالديه وإخوانه وأحبابه على سرر متقابلين في الجنة ، ولا يحرمنا اللقاء به في الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقا.

 

زر الذهاب إلى الأعلى