من التاريخ نُولد.. جليعات ابن سعيد شاهدٌ على المجد مقابلة خاصة: الباحث التاريخي فارس بن جاسم السعيدي لـ محمد الجمعة الظفيري

رشاد اسكندراني

في حديث خاص جمعنا مع الباحث والمؤرخ فارس بن جاسم السعيدي، سلط الضوء على أحد أبرز المعالم التاريخية والاجتماعية في إقليم الزبارة، وهي “جليعات ابن سعيد”، تلك القلعة التي تحوّلت عبر الزمن من حصن دفاعي إلى رمز للكرامة والكرم، وذاكرة حية تجسّد روح المجتمع وأصالته.

ذاكرة من الحجر والإنسان
يبدأ السعيدي حديثه قائلاً:
“جليعات ابن سعيد لم تكن يومًا مجرد بناء صامت، بل هي سجل مفتوح، تحكي فيه كل زاوية قصة، وكل حجر يحمل ذاكرة من مرّ به”.
ويضيف:
“شُيّدت القلعة في الربع الأخير من القرن الثامن عشر، لتكون مأوى لجميع القبائل والعوائل التي سكنت الزبارة، فهي تُمثل تاريخًا من الثبات، والاحتواء، والانتماء العميق إلى الأرض والناس”.

الاسم الذي حمل الروح والهوية
يشير السعيدي إلى خصوصية الاسم قائلاً:
“الاسم مشتق من قبيلة السعيدي العريقة، ما يعكس انتماءها العميق ليس فقط للمكان، بل لأهله وتاريخهم. إنها ليست مجرد قلعة واحدة، بل مجموعة من الجليعات ذات الطابع الخاص، التي تفوح منها رائحة الأصالة والانتماء والكرامة”.

بوابة النفوذ ونبض الزبارة
ويتابع السعيدي:
“تمركزها بين عدة قلاع تاريخية في الزبارة منحها بُعدًا استراتيجيًا واجتماعيًا كبيرًا، حيث شكّلت همزة وصل بين مراكز النفوذ. وجودها وسط هذه القلاع لم يقلل من مكانتها، بل زادها إشعاعًا، فكانت بمثابة مركز اللقاء حين تتفرق السبل، وملتقى الناس في أوقات الشدة والأزمات”.

حصن لكل مستجير
يستذكر السعيدي قائلاً:
“كانت الجليعات تقع بمحاذاة فريحة آل سعيد في الزبارة، وكانت وما تزال رمزًا للأمان والاحتواء، دون اعتبار للقبيلة أو الأصل. كان يُقال: ‘الدخيل أمانة، وحقّه ما يُهان’، وكانت تلك العبارة تُطبّق حرفيًا في جليعات ابن سعيد وفريحة آل سعيد، كنهج حياة أصيل”.

مجلس الشورى واتخاذ القرار
ويضيف:
“في أزمنة الاضطراب، لم تكن جليعات ابن سعيد جدارًا يحمي فقط، بل كانت أيضًا قلبًا نابضًا بالحياة. اجتمع فيها وجهاء وأهالي الزبارة لمناقشة القضايا المجتمعية، وبناء جسور التعاون والتكافل. كانت ساحة للحوار والتكاتف، ومصدرًا لصون السلم الأهلي والأمن الاجتماعي”.

شهامة في الميدان وإنسانية في المواقف
يشير السعيدي بفخر إلى أن:
“أهل جليعات ابن سعيد و فريحة آل سعيد، من مختلف القبائل، عُرفوا بحماية النساء والأطفال، وكانوا سبّاقين دائمًا في نجدة المحتاج وإغاثة الملهوف. لم يُطرق بابها محتاجٌ إلا ووجد صدورًا رحبة وأيادي ممدودة. ولهذا، استحق أهلها عن جدارة لقب ‘مُزبنين الدخيل’، وهو لقب لا يُمنح إلا لمن جسّدوا أسمى قيم الشهامة والنخوة والكرم”.

سلسلة من القادة.. وراية لا تنكسر
ويخص السعيدي بالذكر الشيخ عبدالكريم بن الشيخ مبارك السعيدي، فيقول:
“هو أحد أعلام قبيلة السعيد، وعُرف بحكمته وحنكته وسداد رأيه. سعى بكل جهده لحفظ الأمن، وتوحيد الصفوف، وحل النزاعات. وسار على نهج والده الشيخ مبارك، الذي ورث الحكمة والمسؤولية من أبيه وجده، الذين كانوا شيوخًا لقبيلة السعيد منذ القدم، حتى وصل البيرق اليوم إلى شيخ قبيلة آل سعيد الشيخ الدكتور جاسم بن أحمد بن عبدالكريم السعيدي، الذي حمل الراية بإخلاص في هذا العصر”.

وها هو اليوم يُحيي هذا المجد المتوارث عبر الأجيال، حيث بادر الشيخ الدكتور جاسم السعيدي بتوزيع هدية رمزية تحمل مجسم “جليعات ابن سعيد” على الشخصيات المهمة، تجسيدًا لاعتزازه بالإرث، وتقديرًا للروابط التاريخية والوطنية التي توحّد المجتمع حول هذا الرمز الخالد.

تحوّل من قلعة إلى رمز حضاري
ويؤكد السعيدي:
“مع مرور الزمن، تحوّلت جليعات ابن سعيد من مجرد حصن دفاعي إلى مرجع روحي وثقافي نابض. جدرانها تنطق بقصص البطولة، وأركانها تحتفظ بذكريات الكرم والتلاحم الإنساني. إنها كيان حيّ يروي تاريخ مجتمع بأكمله، ويجسد قيم الأصالة والانتماء الراسخة”.

معلمٌ خالد لا تغيب عنه الذاكرة
يختم السعيدي حديثه قائلاً:
“جليعات ابن سعيد ما زالت شامخة، لم تهزّها العواصف، لأنها بُنيت على الإيمان بالإنسان، وعلى قيم الكرم والأمان. وتبقى، رغم تغيّر الأزمنة، شاهدًا حيًا على أصالة الزبارة وهويتها الراسخة”.

“من حفظ تاريخه، حفظ هويته” – هذه العبارة تلخّص ما تمثله جليعات ابن سعيد، القلاع التي أصبحت رمزًا خالدًا في وجدان كل من عرف الزبارة، أو مرّ بها، أو سمع حكاياتها من جيل إلى جيل .

زر الذهاب إلى الأعلى