وذهب أبي.. الشيخ/ عبد الكريم الجاسر

لقد صدق إيليا أبو ماضي قولاً:

ويا ليتما الأرض انطوى لي بساطها    فكنت مع الباكين في ساعة الدفن.

فمن حروفه النورانية خرجت أحرفاً تحمل نبضاته، بعدما ذهب في رحله طويله، ولن اراه إلا في أحلامي وأولادي وقبلهما أعماله التي عاش بها الناس وعشنا بها في وطن الخير، ولن يسمع منا إلا دعائنا، فهو حكيم أتاه الله الحكمة؛ وفنون العقل، بعلم الشاخص للحياة، وكأنه يمتلك منظومة أخلاقية ليس لها مثيل، يختار كلماته جيّداً قبل نطقها متفحصاً من أمامه من تعبيرات وجهه وسلوكياته، وكأنه عازماً بإطلاق عناقيد من الأدب مؤمناً بتأثير الكلمة فيمن حوله، فلا ينفعل ولا يتأثر بالأحداث ويتعامل مع المشاكل والمواقف القاسية بهدوء؛ حليم لم أرى قط في حياتي مثل حلمه وصبره؛ رجل شجاع يصدّح بالحق وتتغنى به مواقفها؛ ولو لم يختص الله بالكمال له وحده، لاختصرت وقلتُ إنه أبي كامل الأوصاف!، وإذا سألوني لقتُ رثاء شوقي بعلياه:

     سألوني لمَ لم أرث أبي    ورثاء الأب ديــــن أي ديــن

     أيها اللوام ما أظلمـــكم    أين لي العقل الذي يسعد أين؟

ففيه الخير والعطاء من وطن الكرام بالمملكة، التي كان صداها من بلدة الشقة شمال غرب مدينة بُريدة، والتي هفهف منها إلى عالم الثقافة والأدب، بدءً من كلية اللغة العربية، جامعة الإمام بالرياض ليتخرج منها عام 1387 هـ، لتثور عليه طاغيةً في سبتية شهيرة سماها “سبتية عبدالكريم عبدالعزيز الجاسر للثقافة والأدب”، ليرتادها كبار رجال الوطن والعلماء والأكاديميين والكُتاب والمُثقفين والشعراء والعديد من شرائح المجتمع، من كل حدب وصوب، ليشهدوا منافعها على المُجتمع وأبنائه اللذين انتفعوا من خير الله وخيراته، فأنشأ مع مجموعة من أهالي بريدة الجمعية الخيرية لرعاية الأيتام في بريدة عام 1429 هـ وكان رئيس مجلس إدارتها ولديها أوقاف استثمارية تصرف عليها ، وبنى دار إيواء للمسنين ممن ليس لهم عائل بتكلفة ثلاثة ملايين وخمسمائة الف ريال قبل عدة سنوات، وإنشاء مبرة لإقراض راغبي الزواج قبل حوالي أربعين سنه برأس مال قدره مليوني ريال، سابقاً بها مَبرّةِ العلامة ابن الباز -رحمهما الله-، وأقام مبنى وقف للمستودع الخيري بالشماس بتكلفة مليون و خمسمائة الف ريال، وشارك مع مجموعة رجال أعمال بإنشاء الشركة الطبية الأهلية (سلامات) والمستشفى الوطني (ببريده)، إضافة لدعمه معظم الجمعيات الخيرية داخل وخارج السعودية، وجمعيات تحفيظ القران، والسلسلة كثيرة، جعلها الله في ميزانه. وتغنى الكثيرين من محبيه اليوم مُرددين قول المعري في رثاء والده: 

مضى طاهرَ الجُثمانِ والنفسِ والكّرىَ        وسهدُ المني والجيب والذيل والردنْ.

وبالرغم أن تخصصه لغة عربية إلا أنه كان رجل أعمال من الطراز الأول، فأدار الكثير من المصانع واكتسب الكثير من المهارات الإدارية كشركة ببسي كولا الجميح من مراقب لمدير مصانعها حتي علا بإنتاجها مراكز عالمية مرموقة وحصلت المصانع على شهادات عالمية وجوائز رفعت أسهمها في الأسوق العالمية، ليكون -رحمهُ الله- قدوة، وكأنه وأمثاله منارة يهتدي إليها رجال وسيدات الأعمال في وطننا السعودي، حتى كان له الفضل في مبادرتي “للوطنية قيمة وللعطاء مقياس” (فاضل)، وكأني بقول الشاعر صلاح عبد الصبور صادحاً: ” ثم جمعت حياتي     وهي بعض من أبي”.

وهذا دليل على أن الإنسان لا يحصر نفسه في تخصصه بل يبحث عن المهارات الموجودة في داخلة فربما يملك كنوز خفية في نفسه.

ليطل على عالم التجارة في مجال التقسيط فأنشأ اثناء تقاعده عام 1419هـ شركة الجاسرية، بل واستحق عضويته في مجلس إدارة الصناعات الحربية، وشرُفَ بتعيين الملك فهد -رحمه الله- له عضواً في مجلس الادارة بسبب بروز اسمه في العمل التجاري والصناعي 

إنه أبي! فقد ذهب سندي بعد الله ووجاهة حياتي، لكنه ترك فيّ وإخوتي حُب الخير، ولسوف نعمل جاهدينً، سيراً على دربه بكل ما أتانا الله من قوة لإرضائه بعد فراقه، لنكون بجانبه دائماً وأبدً، فأبَرُّ البرّ أن يصل الرجل وُدّ أبيه.

وليس مثل الأب أحد، ولا يأتي مكانه أحد، ولا يأخذ مكانته في القلب أحد، وأزعم أني ـ والحمد لله ـ كنتُ باراً وطائعاً لأبي، واليوم عندما كبرتُ، وأصبحتُ “أباً” لأعز أبناء وبنات، أنا بحاجة إليه أكثر، فيا أيها الأبناء أسعدوا والديكم دون إذنٍ أو عَرض، وعظِّموهم واشركوهم في حياتكم وأعمالكم وأنشطتكم، ولو بالحديث وأخذ الرأي، لأنتهي بقول أبي ماضي: 

لعلّي أفي تلك الأبوّة حقّــــــــــــــــــــــها     وإن كان لا يوفى بكيل ولا وزن

فأعظم مجدي كان أنك لي أب    وأكبر فخري كان قولك: ذا إبني.

زر الذهاب إلى الأعلى